دولي

غزوات المستوطنين للضفة: تزوير استعماري للتاريخ

مستوطنون خلال اقتحامهم قبر يوسف عام 2011

    • استولى المستوطنون على مجموعة قبور لأئمة مسلمين في منطقة جبل الرحمة في الخليل

 

منذ نحو خمس سنوات، لا يتمكن مصطفى بدحة، من قرية دير عمار، غرب رام الله، من دخول أرضه ولا حراثتها وجني ثمار الزيتون منها إلا برفقة أقاربه، ذلك لأنها تبعد 300 متر عن المقام الأثري "النبي عنّير"، الذي يسيطر عليه المستوطنون إلى جانب عين الماء التي بقربه بالقوة، كمكان سياحي غيروا من معالمه، ويعتدون على الفلسطينيين الذين يقتربون من المكان بالحجارة وبواسطة الكلاب، فضلاً عن أنّ بعضهم يكون مسلحاً، ما يعرض حياة الفلسطينيين للخطر، يقول بدحة لـ"العربي الجديد": "أمام الترهيب الحاصل للسيطرة على المكان والأراضي المحيطة به، لجأت قبل ثلاث سنوات لرفع قضية أمام محكمة العدل العليا الإسرائيلية، فأصدرت قراراً قبل ستة أشهر يقضي بإخلاء المستوطنين من أراضينا، لكنهم يواصلون السيطرة على المكان بحماية قوات الاحتلال، ويروجون له على أنه يهودي، ويربطونه بمستوطنة نيريا المقامة منذ نحو 15 عاماً قرب الموقع الأثري".

أمّا مروان نوفل، من قرية راس كركر، فله أيضاً أرض قرب مقام "النبي عنّير"، وهو يقول إنه يعرف تاريخ المكان بهويته الفلسطينية وأنه مقام أيوبي، ويذكر أنّ عائلته كانت تخبره عن الاحتفالات الدينية وموسم التقاء التجار وسباق الخيول الذي كان يحصل هناك، فكان الموقع الأثري مصيفاً للأهالي الذين كانوا يبيتون بجانب عين الماء، حيث تزرع أشجار الفاكهة المختلفة والخضروات الصيفية، وقد بقي الأمر كذلك حتى ستينيات القرن الماضي.

 

    • يقتحم المستوطنون طوال العام مواقع أثرية ودينية عدة بمحافظة رام الله والبيرة

ويوضح نوفل لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد إقامة مستوطنة نيريا على رأس جبل بين دير عمار وراس كركر، بدأ المستوطنون باقتحام عين الماء والموقع الأثري تدريجياً، إلى أن أصبحوا يقتحمونه يومياً، خصوصاً يومي الجمعة والسبت وأيام الأعياد، للتنزه وإقامة شعائرهم الدينية، وقد طردوا أصحاب الأراضي الأساسيين".

ويقتحم المستوطنون على مدار العام، مواقع أثرية ودينية عدة بمحافظة رام الله والبيرة، وينظمون مسارات ميدانية في الأودية والمناطق الطبيعية مروراً بالمواقع الأثرية والدينية وعيون المياه، ويحاولون إقامة مستوطنات قرب الأخيرة برام الله، وفق ما يوضح مدير وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بمحافظة رام الله والبيرة، جهاد مصطفى، لـ"العربي الجديد". ووفق مصطفى، فإنّ "المقامات الأثرية والدينية التي تعود للفترتين الأيوبية والمملوكية وتقع بمناطق (ج)، يقتحمها المستوطنون ويحاولون ربطها بروايتهم الدينية لتزوير التاريخ، على الرغم من إقامتها تخليداً لذكرى الأولياء الصالحين".

ويتّبع المستوطنون سياسة الاقتحامات المتدرجة لعيون المياه والأماكن الأثرية والمقامات، ويرممون وينشئون مرافق سياحية بقربها، وصولاً لقيامهم باقتحامات متكررة بحراسة قوات الاحتلال، ضمن خطة منهجية للاستحواذ على المواقع التي يقتحمونها، وطرد الفلسطينيين منها، بينما سيطروا بالفعل على مواقع أثرية عدة أصبحت داخل حدود المستوطنات. والمقامات التي يقتحمها المستوطنون بمحافظة رام الله والبيرة، هي: النبي عنّير، النبي غيث، أبو العوف، سيدي شيبان، منقطة قرب خربة الطيرة الأثرية، وادي الناطوف، وتل سيون.

وفي أريحا، يقتحم المستوطنون طوال العام مواقع أثرية، هي: بيت شهوان الواقع في المنطقة المصنفة "أ"، وكنيس الديوك الواقع في المنطقة "ج"، وهما يعودان إلى الفترة الرومانية، بالإضافة إلى وادي القلط التاريخي ويقع في المنطقة "ج". ويدعي المستوطنون أنّ تلك المواقع مرتبطة بالديانة اليهودية، فيقتحمونها بحجة الصلاة فيها، تزامناً مع اعتداءات وتخريب للأمكنة، على الرغم من أنها مواقع فلسطينية بغض النظر لأي ديانة تنتمي، بحسب ما يوضح مدير دائرة الآثار في أريحا بوزارة السياحة إياد حمدان، لـ"العربي الجديد". ويشير حمدان إلى إنشاء سلطة الآثار الإسرائيلية متحفاً قرب قرية الخان الأحمر بمحافظة القدس، سمّته "المتحف السامري"، ويحوي آثاراً سرقها الاحتلال من الضفة الغربية.

 

    • يتبع المستوطنون سياسة الاقتحامات المتدرجة لعيون المياه والأماكن الأثرية والمقامات

في حي بلاطة البلد، شرق مدينة نابلس، يقع مقام "قبر يوسف" المكون من غرف عدة، إحداها ضريح لما يوصف بأنه رجل صالح من عشيرة "دويكات"، وفق ما ترجح بعض الدراسات. لكن المستوطنين يدعون أنّ الضريح للنبي يوسف، فيقتحمونه مراراً وتكراراً بحماية قوات الاحتلال، لأداء طقوس دينية ليلاً، تزامناً مع مواجهات يتصدى خلالها الفلسطينيون لتلك الاقتحامات. ووقع قبر يوسف تحت سيطرة إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967. وعام 1986، أعلن الاحتلال عن إقامة مدرسة دينية لتدريس التوراة فيه، فيما تحوّل المكان عام 1990 لبؤرة استيطانية بالكامل. لكن بعد اتفاق "أوسلو"، انتقلت السيطرة على المقام للسلطة الفلسطينية، لوقوعه في المناطق المصنفة "أ"، مع إتاحة المجال لليهود لزيارته بعد التنسيق المسبق مع الفلسطينيين. إلا أنّ الاحتلال عاد وسيطر على القبر كلياً عام 2002، إلى أن تسلمت السلطة المكان مجدداً قبل سنوات، حيث تتمركز قوة أمنية فلسطينية على مقربة منه، ولكن لا يُسمح بدخول الفلسطينيين إليه.

ويقول رئيس بلدية سبسطية محمد عازم، لـ"العربي الجديد"، إنّ "سلطات الاحتلال ترفض أن نضع إنارة ليلية للمسار السياحي أو لافتات إرشادية تظهر التاريخ العروبي والفلسطيني لمواقع البلدة الأثرية، وتزيلها خلال 24 ساعة إن وضعناها، ضمن سعي إسرائيلي لطمس حقيقة هذه الآثار التاريخية، واستبدالها بالرواية اليهودية للسياح الوافدين إلى سبسطية من طرف الاحتلال". وسبسطية منطقة مهمة تاريخياً، لوقوعها على تقاطع طريق تجاري تاريخي يربط شمال فلسطين بجنوبها. وقد شهدت قيام حضارات كثيرة، وهي محط أنظار السياح من مختلف دول العالم، ومحط أنظار علماء التاريخ، بحسب ما يوضح مدير دائرة السياحة والآثار في نابلس، مفيد صلاح، لـ"العربي الجديد".

 

    • سلطات الاحتلال لم تعد تعترف بتصنيفات "أوسلو"، وتقتحم سبسطية بأي وقت

ويوجد في سبسطية 40 موقعاً أثرياً، أهمها شارع الأعمدة، والبازيليكا (المحكمة)، والمدرج، والبرج الهيلينستي، ومعبد أغسطس، وقصر القلعة، والقبور الرومانية. ويرجح الباحثون أنّ آثار البلدة ومعالمها الموجودة والمكتشفة إلى حدّ الآن، لا تتعدى 5 في المئة من تلك غير المكتشفة. وتعرضت آثار سبسطية لعمليات سرقة ممنهجة على يد الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً قبل قيام السلطة الفلسطينية، فسُرق تمثال جسد الراقصة "سالومي" والملك الروماني "هيرودس"، وأسدل الستار على حقبة مهمة من التاريخ العالمي لقصة تاريخية مثيرة.

 بدوره، يقول الباحث حمزة العقرباوي لـ"العربي الجديد"، إنّ تلك المقامات "تأخذ طابع الفترة المملوكية"، مؤكداً أنّ "المقامات المنتشرة في فلسطين تعود بشكل عام إلى الفترات المملوكية والأيوبية والعثمانية، وارتبطت بفكرة الجهاد، إذ اندفع المتصوفون وعلماء الدين للجهاد مع صلاح الدين الأيوبي ضدّ الفرنجة الذين احتلوا بيت المقدس، واختار هؤلاء رؤوس الجبال للتعبّد، فيما أخذت بعض المقامات الطابع العسكري، إذ رابط هؤلاء بسلاحهم وهم يتعبدون فيها، ويتحسبون لأي هجوم على بيت المقدس". ويشير العقرباوي إلى أنّ "فكرة العلاقة بين المقامات والمشروع الصهيوني هي استعمارية؛ ففي حال حمل أي مقام اسماً مرتبطاً بشخصية توراتية، فيمكن أن يستحسنه المستوطنون ويحاولوا السيطرة عليه زاعمين أن لهم علاقة تاريخية بالمكان، كما هو الحال بالنسبة لمقام النبي يوشع".

 

    • فكرة العلاقة بين المقامات والمشروع الصهيوني هي استعمارية

ويؤكد رئيس المجلس القروي في فرعتا، عبد المنعم أبو شناعة، لـ"العربي الجديد"، أنّ المستوطنين من "حفات جلعاد"، توقفوا منذ أكثر من عام عن اقتحام المكان، بعد إقامة سور بمحاذاته ووضع أسلاك شائكة وإعادة ترميمه، لكنهم قبل ذلك كانوا يقتحمون المقام بشكل متفرق، ويؤدون الصلوات فيه. والمقام بناء إسلامي، ويُعتقد أنّ إماماً اسمه أبو الجود كان يعتكف فيه للعبادة، وفي السياق، يؤكّد مدير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في شمال الضفة، مراد اشتيوي، لـ"العربي الجديد"، أنّ لترميم المكان أثر بوقف الاعتداءات الاستيطانية عليه، مؤكداً أنّ "الوجود الفلسطيني يمنع بدرجة كبيرة هجمات المستوطنين".

بدوره، يقول مدير دائرة السياحة والآثار في طولكرم، إياد ذوقان، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الاقتحامات تحصل بادعاءات وجود مزار له علاقة بالرواية التوراتية، والحقيقة أنه لا توجد أي صلة للمكان بذلك، فهو يعود فقط للفترة العثمانية، وكان مأهولاً حتى وقت قريب، والهدف من هذا الاقتحام وغيره، تعزيز رواية توراتية مزيفة لا تمت للحقيقة بصلة". وربط ذوقان اقتحام بابور البيك، باقتحامات مشابهة في مناطق المسعودية، والمنطار، والنفق العثماني، وكلها ضمن خط واحد، وهو مسار سكة قطار الحجاز العثماني.

وبحسب الناشط الفلسطيني عيسى عمرو، استولى المستوطنون كذلك على مجموعة قبور لأئمة مسلمين في منطقة جبل الرحمة في الخليل، مدعين أنّ المدفونين فيها رجال دين يهود، عدا عن منطقة حبرون في شارع بئر سبع التي يقتحمها المستوطنون بصورة دائمة، مدعين أنّ حبرون حاخام يهودي مدفون هناك، بالإضافة إلى اقتحام منطقة بئر حرم الرامة الأثرية.

من نفس القسم دولي