دولي
غزة.. المزاودات الانتخابية والبُعْد الاستراتيجي
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 18 سبتمبر 2019
على أعتاب الانتخابات الإسرائيلية، المقرَّرة في السابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، تزداد المزاودات على رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، سيما من زعيمي حزبي "كحول لفان"، بيني غانتس، الأكثر تهديدا لنتنياهو، و"يسرائيل بيتينو" أفيغدور ليبرمان.
ويتركّز هجوم المنافسين على إظهار ضعف نتنياهو عن ردع المقاومة في قطاع غزة، بتجنُّب الحرب مع حركة حماس، وسائر الفصائل المقاومة؛ ما يسمح باستمرار التهديد على مستوطنات غلاف غزة.
من ذلك ما قاله غانتس على "تويتر": "يسافر نتنياهو حول العالم، ويخترع القصص، أمام الكاميرات، في وقت يمرُّ فيه سبتٌ آخر على أطفال سديروت في الملاجئ، وتحترق حقول المزارعين، بدلا من استعادة الردع الإسرائيلي، ردعت حماس نتنياهو".
ومن ذلك أقوالُ ليبرمان: "مصطلحات الاحتواء والتسوية، والتي يُطلقها نتنياهو حول تعامله مع حركة حماس في غزة، ما هي إلا تجميل لمصطلح الخضوع للإرهاب"، مشيرا إلى أن أكثر ما يُقلقه في التوتُّر بين "إسرائيل" والفصائل الفلسطينية في غزة، هو "غياب قوَّة الردع الإسرائيلية؛ ما يسرّع المواجهة والحرب بين الجانبين". ويضيف "يقصد نتنياهو في الاحتواء والتسوية الرُزم الإنسانية التي تسمح إسرائيل بدخولها القطاع".
وهم بذلك يُحسنون الاستفادة من نقطة ضعف نتنياهو، المتمثِّلة في حرصه على استمرار زعامته، وتلافي أيّ مخاطرة محتمَلة تهدِّد فوزَه في الانتخابات المقبلة. وهو يدرك أن الحرب الواسعة مع غزة ليست أمرا سهلا، ولا يتأتَّى حسمُها بخسائر محدودة، كما أنه يدرك أن خصومه السياسيين سيكونون أوَّلَ من يستغلون تلك الخسائر؛ من أجل إسقاطه سياسيا، أو إضعافه، ولو لم يكن ذلك بشكل مباشر، إذ إنَّ فَتْحَ ورطة غزة، حتى لو تسنّى إسقاطُ حكم حركة حماس، وتجرّعت "إسرائيل" خسائرها، المادية والمعنوية، سيُنشِئ مأزِقًا ليس هيِّنًا، يتمثّل في الفراغ الذي سيتركه ذهابُ حكم "حماس"، وهنا نصل إلى البُعد الاستراتيجي المتمثل في مستقبل غزة؛ هل تقبل دولة الاحتلال بعودة السلطة الفلسطينية إليها؟ وكم يتماشى ذلك مع مخطَّطاتِها السائرة بوتائر عالية، والمتعلقة بالضفة الغربية والقدس؟
لعل الركيزة الأساسية التي يستند إليها نتنياهو في دفاعه عن سياسته التي تتلافى الحرب مع غزة تكمن في استهدافه الخطر الأكبر الذي يمثّل، بحسب توصيفه، رأس الأفعى، وهي إيران التي تدعم الفصائل المسلَّحة في القطاع، وهو بتكثيف حربه على الوجود الإيراني في المنطقة العربية، من العراق إلى سورية إلى لبنان، وربما إلى اليمن، ضد الحوثيين، إنما يُضعِف قدرة إيران، ليس فقط على دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة، وإنما أيضا إضعاف قدراتها على مدّ دعمها هذا إلى الضفة الغربية التي هي الساحة الأكثر أهمية في المشروع الاحتلالي الاستيطاني التهويدي، في هذا التوقيت.
وسيتأثر هذا الاستهداف الإسرائيلي لإيران وحلفائها في المنطقة العربية، بالموقف الأميركي وتحوُّلات الرئيس دونالد ترامب؛ حيث يترك إشاراتٍ إلى إمكانية اقترابه من اتفاقٍ جديد مع إيران، أو سير نحو مسار التهدئة. كما أوضح وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، الجمعة الفائتة، أنّ "إيران تقترب ببطء، على ما يبدو، نحو وضع يمكن خلاله إجراء محادثات".
وانسجاما مع تجنُّب نتنياهو خيار الحرب الواسعة ضد غزة، راح ينفِّس الاحتقان في القطاع، بما يسمِّيها الاحتلال عادة تسهيلات، ومنها رفع القيود المفروضة على دخول شحنات الوقود لتوليد الكهرباء. وتشغيل عشرات آلاف من العمَّال الغَزيِّين في مستوطنات غلاف غزة وغيرها. بالتوازي مع دعوة الاحتلال عدّة دول إلى استيعاب فلسطينيين يرغبون في الهجرة من دون رجعة. ومع ذلك، لا يمكنه أن يمتنع عمّا يسمِّيها "ردودا" حربية على هجمات صاروخية تأتي من القطاع. وهو يبني على تقديرات أن حركة حماس غير مَعنيَّة، في هذه المرحلة، بحربٍ واسعة.
وفي الأخير، لا يبدو نتنياهو مستجيبا لمزاودات خصومه الانتخابية، وهو يستطيع أن يبرِز نجاحاتٍ دوليةً وإقليمية، ونجاحات احتلالية؛ فهو يستقوي بزخمٍ متواصل، ونجاحات ملموسة، سواء على صعيد تعزيز مكانة "إسرائيل" في العالم، ولا سيما لدى أميركا، وبعلاقات أفضل، وتنسيق مستمرٍّ مع روسيا، وحتى الدول الأوروبية لا تبدو قادرة أو راغبة، كما في السابق، في لعب دور متميِّز عن الموقف الأميركي؛ موقف مبادر، أو حتى منتقِد بقوّة للسياسات الاحتلالية الاستيطانية التي تفاقمت، وأصبحت أكثر انفرادية، في تقرير شكل الوضع في فلسطين المحتلة، في ظلّ خطوات الضم، وإعلان نتنياهو أنه سيضمُّ المستوطنات إلى "إسرائيل"، وكما تجلَّى ذلك في إعلانه، من قلب مدينة الخليل، "أنهم ليسوا غرباء في الخليل، وأنهم سيبقون فيها إلى الأبد".
صحيحٌ أن الاتحاد الأوروبي قال في بيان له "عمليات الهدم في المناطق المصنفة ج في الضفة الغربية والبناء الاستيطاني الإسرائيلي، تشكِّل تهديدا لقابليَّة حلِّ الدولتين، وتقويضا للآمال بسلام دائم"، ولكن دُوَلَه لا تُتبِع هذا الموقف بخطواتٍ عملية، أو دبلوماسية تترجمه، أو تتناسب مع خطورة الانتهاكات التي تجهز، فعليا، عملية على خيار السلام، وعلى حلّ الدولتين.
ولا يقتصر هذا التحسّن على الساحة الدولية، بل يتعداه إلى المنطقة العربية، وهو أمر بالغ الأهمية لنتنياهو، ولدولة الاحتلال. وهنا استثمر نتنياهو موقف وزيري الخارجية، البحريني والإماراتي، حين أعلن ترحيبه بوقوفهما ضدّ ما سمّاه العدوان الذي شنّه حزب الله على قوة عسكرية إسرائيلية. وقد تباهى أخيرا بأنَّ التطبيع بين الدول العربية ودولة الاحتلال يتزايد، قائلا "كثيرون في العالم العربي، على مستوى القادة والشعوب، يدركون أن "إسرائيل" لم تعد عدوًّا لهم، وإنما باتت حليفا أساسيا في مواجهة عدوان إيران".
ولا يخفى أنه الآن في موسم انتخابي جعله ينسى، أو يتناسى، تصريحه، قبل فترة ليست بعيدة، أنّ المعضلة أمام "إسرائيل" في المنطقة العربية رفض الشعوب العربية للتطبيع معها، خلافا لنُظُمٍ عربية تسارع إلى ذلك. وليس من المعقول أن يطرأ انعطاف على موقف من التطبيع هذه الشعوب بهذا العمق، في مثل هذه الفترة.
وبهذا، يجمع نتنياهو بين مصلحة "إسرائيل" ومصلحته الشخصية في الفوز بمقاعد في الكنيست المقبل تؤهّله لتشكيل حكومة، فشل في تشكيلها، عَقِب الانتخابات السابقة، قبل أشهُر قليلة، والثمن هو القضية الفلسطينية، وأدواتُ نجاحه ليست كلُّها دولية، وإنما في القلب منها، ويا لَلأسف، عربية.
أسامة عثمان