دولي
رواتب الشهداء والأسرى.. والمفصل الاستراتيجي
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 04 سبتمبر 2019
حين قرّرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو اقتطاع جزءٍ من أموال المقاصّة، يعادل المبلغ الذي تصرفه السلطة الفلسطينية، شهريا، (نحو 138 مليون دولار) لأُسَر الشهداء والأسرى، عبْر قانون أقرّه الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، رفض الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، استلام الأموال، إن لم تكن كاملة. ونتيجة احتجازها، عجزت السلطة عن دفع الرواتب للموظفين العموميين، إلا بما يقارب النصف، لستّة أشهر متتالية، مع حرصها على الالتزام بدفع رواتب الشهداء والأسرى، كاملة، كلّ شهر. ولم تتمكّن الحكومة الفلسطينية من صرف تلك الرواتب المنقوصة، إلا بالاستعانة بالبنوك الفلسطينية، الأمر الذي لن يكون ممكنا بعد أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بحسب تصريحات سابقة لرئيس الحكومة محمد اشتية.
جاء هذا القانون بعد صعود الأحزاب اليمينية الصهيونية المتطرّفة، على خلفية دينية، وقومية، ليغذِّي الانعطافةَ نحو الحلّ مع الفلسطينيين، وتفيد بأن "الحل" لن يكون أكثر من حكم ذاتي، مُسدلا السِّتار على حل الدولتين؛ بما يعني أنه لا سيادة غربيَّ نهر الأردن، إلا لدولة الاحتلال. ولأن الشهداء والأسرى هم في صُلب معركة التحرُّر الوطني، ولأن استمرار رعاية السلطة الفلسطينية لهم يعبِّر عن تمسُّكها بالأبعاد والحقوق الوطنية، فإن الخلاف على رواتبهم يتجاوز البُعْد المالي، أو ما سمَّاها رئيس الوزراء الفلسطيني اشتية، في لقائه مع سبعة وثلاثين من أعضاء من الكونغرس الأميركي، في رام الله، أخيرا، بالحرب المالية على السلطة والفلسطينيين؛ لإجبارهم على القبول بصفقة القرن. كما أن رضا السلطة بهذا القرار يعني موافقةً منها على تنصُّل إسرائيل من الاتفاقات الموقعة. هذا التنصل يجري عمليا، بتجاوُز الاحتلال اتفاق أوسلو 1993، نفسه، كما كان، مثلا، من هدمها بيوت الفلسطينيين، في حي وادي الحمّص، في صور باهر في ضواحي القدس، بذرائع أمنية، وهي الواقعة في مناطق "أ" و"ب"، وهي التي حصّل أصحابُها تراخيص بنائها من السلطة الفلسطينية.
صحيح أن التضييق المالي على الفلسطينيين يصبُّ في هذا المآل، ولكنه ليس البُعْد الأهم. يدل على ذلك أن الرئيس عباس رفض مقترحاتٍ بتعويض المبالغ المقتطعة، بالالتفاف على القانون آنف الذكر. إذ كان ممّا اقترحته إسرائيل على الفلسطينيين أن تجبي السلطةُ ضريبة "البلو" على الوقود المُشترَى لصالح الضفة الغربية، مباشرة، بدلًا منها، وهو مبلغ شهري، يبلغ 65 مليون دولار، بهذا يتقلص المبلغ الإجمالي الذي تصادره إسرائيل.
هذا الوضع المالي الصعب، وغير القابل للاستمرار، مع الانسداد السياسي، يهدِّد بقاء السلطة الفلسطينية، ولا يبدو أن دولة الاحتلال، وحكومة نتنياهو، تريد انهيارها، بقدر ما تسعى إلى تحجيمها، وإعادة صياغة الأسس التي تقوم عليها، لتتجرَّد من طموحات الدولة والسيادة إلى الاكتفاء بسلطة حكم ذاتي.
ومن الصحيح، أيضا، أن حكومة الاحتلال تتذرّع بذرائع أمنية؛ للمطالبة بقطع السلطة مخصَّصات أُسر الشهداء والأسرى، كما كان من المندوب الإسرائيلي الدائم لدى الأمم المتحدة، داني دانون، الذي استغلّ مقتل الجندي الاحتلالي، في مجمع غوش عتصيون الاستيطاني، ليُحمِّل السلطة الفلسطينية المسؤولية؛ بسبب صرفها رواتب للأسرى وعائلاتهم.
الهدف الاحتلالي الأعمق هو تجريد السلطة الفلسطينية من أيّ أبعاد وطنية، ولتكون، حينها، أقربَ إلى أن تكون سلطة حكم ذاتي، تقتصر، وظيفيا، على دور الوكيل الأمني للاحتلال، مع إعفائه من مسؤولياته، وفق القانون الدولي، تجاه الفلسطينيين المحتلين، في الصحة والتعليم وما شابه. وسيكون التحدّي الأعمق في تغييب التوجُّهات الوطنية، أو إضعافها، ليس عن مسؤولين أو متنفِّذين في السلطة، ولكن عن مجمل قوى الشعب الفلسطيني التي ظلت، طوال العقود الماضية، لا تقبل المساومة على البعد الوطني لأيّ حل أو تسوية.
قد لا يُصار إلى مواجهة ذلك مباشرة، ولكن بالاعتماد على فرْض الوقائع، ومحاولة تفعيل قنوات اتصال مع مسؤولين فلسطينيين بتجاوُز السلطة الوطنية، وتهديد الضروريات المعيشية، وذلك بتدرُّج زمني، متوسِّط المدى. ويعزِّز هذا المسار، نحو سلطة حكم ذاتي، الموقفُ الأميركي الذي ظلّ يكرّره مسؤولون أميركيون، وفي مقدمتهم الرئيس، دونالد ترامب، حتى قبل إعلانه عن صفقة القرن؛ أنها لن تتضمّن الموافقة على دولة فلسطينية.
واضح أن دولة الاحتلال، لا سيما بخضوعها للأحزاب اليمينية المتطرِّفة، وبتقديمها الأبعاد الأمنية، لن تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع الحلول السياسية المؤمِّلة بدولة فلسطينية، وهذا ما أوضحه اشتية، أيضا، في لقائه القريب، مع أعضاء الكونغرس، إذ قال: "الحوار في إسرائيل، الآن، هو بين معسكر ضمّ أراضي الضفة الغربية، ومعسكر إبقاء الأمر الواقع، بينما معسكر السلام تآكل واندثر".
بالطبع؛ يفتح إقصاء حل الدولتين، أو تدميره، واقعيا، الباب لمخاطر كبيرة على دولة الاحتلال، ويجرُّ أضرارا فادحة على القضية الفلسطينية. أما دولة الاحتلال، فتصبح مهدَّدة بأن تغدو دولة فصل عنصري، أو أن تتحوَّل إلى دولة ثُنائية القومية، وهو ما لا يمكنها القبول به، لا سيما بعد كل هذا التحوُّل نحو اليمين، كما ظهر ذلك، جليًّا، في "قانون القومية" الذي ينصُّ على أن إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، وأنه لا يملك غير اليهود فيها حقَّ تقرير المصير، إلا حقوقا فردية. وأما الأضرار الماحقة على الفلسطينيين فتتمثّل في شطب حق العودة، وفي شطب الحق في القدس، وفي عودة اللاجئين، والتسليم بالسيادة الاحتلاليَّة على الضفة الغربية، أو أجزاء كبيرة منها؛ ما يعني التفريط في غالبية الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
أسامة عثمان