دولي
القدس.. لا المسجد الأقصى وحده
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 03 سبتمبر 2019
تردّدت على نطاق واسع تصريحاتٌ لمسؤولين إسرائيليين في الأيام القليلة الماضية، أعلن بعضهم عدم اعترافهم بـ"الأمر القائم" في المسجد الأقصى، والدعوة إلى تغييره، كما قال وزير الأمن، جلعاد أردان الذي دعا صراحة إلى تمكين اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى. والأمر القائم عبر قرون أن المسجد الأقصى هو دار عبادة للمسلمين، وسدنته وحرّاسه. والقائمون عليه هم من أبناء القدس ومدن أخرى، وتشرف عليه دائرة الأوقاف الإسلامية، ويتمتع الأردن بالوصاية على المكان، وفقا لاتفاقية وادي عربة بين عمّان وتل أبيب، ولاتفاق بين السلطات الأردنية والفلسطينية، جرى في العام 2013.
وقد استغلت سلطات الاحتلال مناسبة عيد الأضحى لإطلاق حملة مسعورة جديدة ضد الحرم القدسي، وزعمت أن المناسبة تقترن بذكرى خراب الهيكل المزعوم. واتسمت الحملة التي جرت في اليوم الأول للعيد (11 أغسطس/ آب) بانتشار 450 مستوطناً في باحات المسجد التي عادة ما يتم اتخاذها مكانا لتبادل التهاني والمعايدات، وعقد الجلسات في الهواء الطلق. وقد نجم عن ذلك وقوع اشتباكات بين المصلين العزّل وحشود رجال الشرطة، أوقعت 61 مُصاباً بالأعيرة المطاطية، أو بشظايا قنابل الصوت، وأخرى اختناقًا بالغاز، بينها إصابة طفلٍ بشظايا قنبلة صوت، وتم نقل 16 منهم إلى المستشفيات. وفي هذه الأجواء من التعدّيات المشينة، ارتفعت وتيرة التصريحات الإسرائيلية التي تكشف عن التوجه إلى السيطرة على الأقصى، وتمكين غير المسلمين، وهم اليهود الإسرائيليون، من الصلاة فيه، بادّعاء أن السيادة في القدس هي للاحتلال، وكل ما في القدس يخضع لهذه السيادة.
لم يكن هذا التصعيد مفاجئا، إذ إن وتيرة الاعتداءات لم تتوقف، بل أخذت طابعا منهجيا ومنتظما، برعاية "المستوى السياسي" ودعمه، ممثلا بحكومة بنيامين نتنياهو. وقد اشتدت المخاطر على المدينة المقدّسة مع تسليم إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتسمية الاحتلال المدينة عاصمة له، ونقل السفارة الأميركية إليها. وهو ما اعتبرته تل أبيب ضوءاً أخضر، لإطباق سيطرتها على المدينة، بما في ذلك أماكن العبادة للمسلمين والمسيحيين. كما استغلت هذه السلطات أجواء التطبيع العربية مع الاحتلال، لإضعاف معنويات الرازحين تحت الاحتلال، والإيحاء لهم بأن "العرب يقفون معنا، وليس معكم". وبهذا، تمضي هذه السلطات في خطتها للسيطرة التدريجية على الأقصى، وما حوله، واستنساخ نموذج الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، بالتقسيم المكاني والزمني للمصلين المسلمين وقطعان المستوطنين. وقد حدث ذلك مع أقل ردود فعل عربية وإسلامية على هذا التطور الذي كان متوقعا ومنتظرا، وكأن قرارات القمم العربية والإسلامية حول القدس التي صادق عليها عشرات القادة والزعماء، هي مجرّد حبر على ورق وللحفظ في الأرشيف، وليست ميثاقا واجب الالتزام والتقيد به.
وبين الدول العربية المعنية مباشرة بهذه الوقائع، يقف الأردن الذي يحظى بوصاية هاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس. ومع عطلة عيد الأضحى، جاء رد الفعل الأردني على لسان الناطق بوزارة الخارجية، السفير سفيان القضاة، عبّر عن "رفض المملكة المطلق لمثل هذه التصريحات"، محذّرا من "مغبة أي محاولة للمساس بالوضع القائم التاريخي والقانوني والتبعات الخطيرة لذلك"، وفق ما ذكرته الثلاثاء وكالة الأنباء الأردنية (بترا). وأوضح الناطق الرسمي أن وزارة الخارجية وجهت مذكرة رسمية عبر القنوات الدبلوماسية للاحتجاج والاعتراض على تصريحات الوزير الإسرائيلي أردان.
وسبق أن صدرت العشرات، إن لم تكن المئات من تصريحات مماثلة، ومعها مذكرات الاحتجاجات والاعتراض. وذلك جزء من طبيعة عمل الدبلوماسية التي من مهامها إطلاق تصريحاتٍ لا مَدافِع، غير أن المشكلة تكمن في أن المواظبة على إطلاق تصريحات متشابهة، تُفقدها الأثر المطلوب من فرط التكرار، ولعدم اكتساب الجديد منها أي مضمون جديد، بينما تتغير الوقائع على الأرض في كل مرة، باتجاه تحقيق المطامع المكشوفة للاحتلال.
وليس سراً أن العلاقات بين عمّان وتل أبيب متوترة، وأن هذا التوتر يعود أساساً إلى تمسّك الأردن باستعادة أراضيه التي كانت في عُهدة الاحتلال (على سبيل الاستئجار) منذ توقيع معاهدة وادي عربة 1996. وقد رفض الأردن أية مفاوضات بشأن تلك الأراضي، باستثناء مفاوضات إجرائية لتسليمها. وقد لوحظ أن رئيس هيئة الأركان، اللواء يوسف الحنيطي، قد زار قبل أيام منطقة الباقورة، على مقربة من أراض أردنية يطلب الأردن إعادتها إليه.
ومع الإقرار بأن السيطرة على الأقصى جزء من مخطط إسرائيلي لطمس الهوية الإسلامية والعربية لبيت المقدس، وللاستيلاء على كل ما في فلسطين، إلا أن التصعيد الخطير ضد الأقصى يمثل، من جانب آخر، تحدّياً سافراً للأردن ووصايته على الأقصى. ويُحسن الأردن صُنعاً بالتمسّك برفض الأمر الواقع الاحتلالي للقدس الشرقية، ومن ضمنها الأماكن المقدّسة، وعدم عزل موضوع الأقصى عن وضع القدس ككل، أو التركيز المنفرد على المسجد المبارك، وذلك لمجابهة الطرح الإسرائيلي الشاذ الذي يقرن السيطرة الغاشمة بالسيادة المزعومة. وللتدليل على أن التمسّك بالأقصى جزء من التمسّك بالقدس الشرقية الواجب إنهاء احتلالها. وذلك لقطع الطريق على أية مساوماتٍ متوقعة حول القدس، ثم حول أجزاء من الأقصى، وما يحيط به، أو للوقوف بوجه السعي إلى الإبقاء على وصاية شّرَفية (شكلية) أردنية، وهو ما توحي به تصريحاتٌ لصانعي "صفقة القرن"، ومنهم نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، بشأن "مراعاة" الدور الأردني في الأماكن المقدسة.
هذا مع عدم استبعاد محاولة تل أبيب تمكين الأردن من الاحتفاظ بدور إداري ما في الأقصى (بعد تحويله إلى مكان عبادة إسلامي ـ يهودي!)، مقابل تخفيف الموقف الأردني من أراضي الباقورة والغمر، ومنح دولة الاحتلال مُهلة زمنية (طويلة) أخرى في حيازة هذه الأراضي واستخدامها، والانتفاع بها، وبحيث تنشأ أجيال من الإسرائيليين على الاعتقاد أن تلك الأراضي جزء من الكيان الإسرائيلي، حتى لو كانت ذات وضع "خاص".. وهو ما يفسّر الدأب الإسرائيلي على تنظيم رحلات مدرسية إلى تلك الأراضي الأردنية.
محمود الريماوي