دولي

عن مخاوف إسرائيل من وقف التنسيق الأمني

القلم الفلسطيني

لم يطرأ أي جديد على التزام السلطة الوطنية الفلسطينية باتفاقيات أوسلو، وخصوصا التنسيق الأمني، على الرغم من مضي أسابيع على قرار الرئيس محمود عباس وقف العمل بالاتفاقيات مع الحكومة الإسرائيلية. ولطالما صدرت قرارات عديدة عن المؤسسات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية، منذ أكثر من أربع سنوات، كما المطالبات الشعبية الفلسطينية الواسعة بضرورة وقف التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بعد أن وصل مشروع "أوسلو" إلى نهايته، ولم يبق من الاتفاقيات إلا ما يصب في مصلحة دولة الاحتلال، وخصوصا الدور الوظيفي للسلطة الأمني والخدماتي اليومي الذي تعترف إسرائيل بأنه أزاح عنها أعباء كثيرة. 

جاءت ردود الفعل الإسرائيلية فاترة على قرار الرئيس عباس، على الرغم من تداعيات كبيرة لوقف التنسيق الأمني على إسرائيل في حال وقفه، وقد يعزو بعضهم برودة هذه الردود إلى انتظار إسرائيل معرفة وجهة القيادة الفلسطينية، إن كانت جادّة في التطبيق والتنفيذ، أم أن هذا القرار لا يختلف عن القرارات السابقة ذات الصلة، على الرغم من صدروه هذه المرة من رأس السلطة التنفيذية التي تمتلك كل الخيوط، بعد تجفيف صلاحيات منظمة التحرير ونقلها إلى السلطة الفلسطينية، كما أن للرد الإسرائيلي البارد رسالة تطنيش وعدم اكتراث، وكأن إسرائيل توصل رسالة إلى السلطة أنها لا تقلق ولا تأبه بالسلطة وقراراتها، وأن الأخيرة ستكون الخاسرة في حال التنفيذ. 

حققت إسرائيل إنجازات كبيرة بفعل التنسيق الأمني ما لم تحققه بالوسائل الأخرى، حيث يعبر التنسيق الأمني عن التزام السلطة بموجب إعلان المبادئ الموقع في العاصمة النرويجية،  أوسلو، بين منظمة التحرير وإسرائيل، والذي نص على حق إسرائيل بالوجود الآمن، وترتب عليه إلزام السلطة الفلسطينية بالعمل على ما سموه في "أوسلو" بمحاربة الإرهاب والتحريض، والذي يعني تحمل السلطة مسؤولية في منع الهجمات على إسرائيل، في مقابل نقل الصلاحيات الأمنية للسلطة الفلسطينية في المناطق التي كانت تصنف A قبل الاجتياح العسكري لها في العام 2002 ، واعتبرت إسرائيل اعتراف منظمة التحرير بحقها في الوجود الآمن في فلسطين، ومنع مهاجمتها، تطورا كبيرا، إذ من شأنه أن يصب في خدمة الرواية الصهيونية، ويضعف الرواية الوطنية التاريخية الفلسطينية التي اعتبرت الحركة الصهيونية بمثابة سرطان يجب اجتثاثه بكل الوسائل، وفي مقدمتها الكفاح المسلح. وألزمت اتفاقية اوسلو الضحية الفلسطينية في حماية المجرم والسارق من دون مقابل سياسي، وقبل الحصول على الحقوق الوطنية. 

يشكل وقف التنسيق الأمني كابوسا كبيرا على إسرائيل، وهي ترى أنه سيؤدي إلى انهيار الوضع الأمني في الأراضي الفلسطينية المحتلة وداخل إسرائيل، واندلاع مواجهات فلسطينية إسرائيلية كبيرة، ستعيد القضية الفلسطينية إلى مكانتها الطبيعية في مقدمة القضايا في المنطقة والعالم، وستعود مظاهر التأييد والتعاطف العربي والدولي مع الشعب الفلسطيني وضد الاحتلال. وهذا ما لا تريده إسرائيل نهائيا، لأنه سيعيد إظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل دولة احتلال تمارس شتى أصناف القمع ضد الشعب الفلسطيني، ما سيضعف من مكانة إسرائيل في المنطقة والعالم، بعد أن تحسّنت كثيرا وقطعت أشواطا في بناء علاقات وتحالفات مع أنظمة عربية على حساب القضية الفلسطينية، والذي يعني تخليا من بعض الأنظمة العربية عن التزاماتهم تجاه الشعب الفلسطيني ومقدساته، وازدادت الوفود العربية من تونس والعراق والسعودية والبحرين لإسرائيل، وأصبحت عواصم عربية مفتوحة أمام الوفود الرسمية الإسرائيلية، الأمر الذي تم تتويجه في ورشة المنامة، حين أصر نظام البحرين على عقد المؤتمر في المنامة، رغما عن مطالبة القيادة الفلسطينية بمنع انعقاده. ولذلك، فإن أية مواجهات فلسطينية إسرائيلية ستفشل هذا الإنجاز الإسرائيلي الكبير. 

ترى إسرائيل أن بعض الفلسطينيين سيفهمون وقف التنسيق الأمني نهايةً لمرحلة منع السلطة المقاومة، وضوءا أخضر للمقاومة، وقد يدفع عناصر أمن فلسطينيين إلى القيام بعملياتٍ لامتلاكهم السلاح وقدرتهم على استخدامه، كما جرى في الانتفاضة الثانية، حين تم إيقاف التنسيق الأمني، وانضم عديدون من رجال الأمن للمقاومة، ما أدى إلى مقتل أكثر من ألف إسرائيلي، وإصابة آلاف آخرين، الأمر الذي سيضرب المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، والذي تصاعد بشكل كبير في العقد الأخير، بفعل الهدوء الذي ساد الضفة الغربية، إضافة إلى ضرب الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصا قطاعات الزراعة في المستوطنات والسياحة، كما الاستثمارات الخارجية في إسرائيل، والذي سيشكل رافعة جديدة لعمل حملات المقاطعة العالمية ضد إسرائيل، حيث كثيرا ما تستخدم إسرائيل استمرار السلطة الفلسطينية في التنسيق الأمني في مواجهتها الدعائية حملات المقاطعة الدولية. 

استفادت إسرائيل من بعض التشوهات التي طرأت على النقاش العام الفلسطيني بشأن قضايا  ومفاهيم كثيرة مرتبطة بالصراع والكفاح وتعريف إسرائيل والعلاقة معها، والتي عكست تراجعا في المنظومة الوطنية الفلسطينية، والتي أدت إلى إضعاف الجبهة الداخلية الفلسطينية، نتيجة استمرار السلطة بالتزاماتها، وخصوصا الأمنية منها، بعدما لم تُبق الإدارة الأميركية والحكومات الإسرائيلية أي منفذ للسلطة، إذ تخشى إسرائيل أن وقف التنسيق الأمني سيعيد العلاقة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال إلى وضعها الطبيعي، وإعادة لحمة الجبهة الداخلية الفلسطينية وتماسكها، وكشفت تغريداتٌ لفلسطينيين على الصفحات الإسرائيلية الرسمية جزءا من التشوهات. ومما يعقد الأمور أكثر من وجهة النظر الإسرائيلية أن من تداعيات وقف التنسيق الأمني أن إسرائيل ستشدّد حصارها، وتتراجع عن خطواتٍ نفذتها في فترة الهدوء من منح آلاف الفلسطينيين، رجال أعمال وآخرين، بطاقات لتسهيل أمورهم، ودخولهم إسرائيل بمركباتهم الفلسطينية بعد منعها عشرين عاما، والذي سيؤدي لضرب إحدى ركائز الاستراتيجية الإسرائيلية الاستعمارية، المتمثلة بدعم طبقةٍ ترتبط مصالحها ببقاء الهدوء وللدفاع عنه، ما يؤدي إلى زيادة في مؤشرات الرأي العام الفلسطيني الداعم لمقاومة الاحتلال، والرافض أشكال التطبيع، والقبول بالتسهيلات الحياتية والاقتصادية. وهذا يشكل ضربة قوية لمشروع اليمين الإسرائيلي بالدمج الاقتصادي لفلسطينيي الضفة مع إقصائهم سياسيا وقوميا، والذي سيحيي الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد ربع قرن من الجهود الدولية الكبيرة لاختراق الشعب الفلسطيني وضرب وعيه، ليتكيف تحت الاحتلال إلى الأبد.

لم تقتصر تداعيات وقف التنسيق الأمني على الحالة الأمنية، بعد نجاح اليمين الديني والقومي الصهيوني في توظيف التنسيق الأمني والهدوء في الضفة لمصالحه. وواصل اليمين ورئيس الحكومة الإسرائيلية الاحتلال والاستيطان مع بقاء التنسيق الأمني في مواجهة اليسار الإسرائيلي الذي أصبح على هامش الحياة السياسية الإسرائيلية، كما أن من ضمن تداعيات وقف التنسيق الأمني وانهيار الحالة الأمنية أن يؤثرا سلبا على مشاريع إسرائيل العدوانية وخططها تجاه غزة والشمال، بالتزامن مع التوترات المتصاعدة في الخليج. وإذا استطاعت إسرائيل شن ثلاث حروب على غزة، قتلت فيها آلاف الفلسطينيين، وتبقي الضفة الغربية هادئة، فإن من المشكوك فيه أن يتكرّر هذا المشهد مستقبلا، في حال نفذت السلطة قراراتها بوقف التنسيق الأمني.

عادل شديد

 

من نفس القسم دولي