دولي
في تأبين المناضل الفلسطيني صبحي غوشة
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 06 أوت 2019
تمر القضية الفلسطينية حاليا بمرحلة هي الأخطر في تاريخها. وإذا كانت «نكبة 48» قد مكنت إسرائيل من السيطرة على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، مقابل 56% فقط خصصت للدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 47، كما مكنتها من طرد ما يقرب من مليون مواطن فلسطيني بالقوة، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون في الشتات، فإن «صفقة القرن» التي تصر الولايات المتحدة على فرضها اليوم كأمر واقع، سوف تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية تماما من خلال: 1- حرمان الشعب الفلسطيني نهائيا من حقه في إقامة دولته المستقلة، حتى لو على المساحة المتبقية من وطنه التي لا تزيد عن 22% من فلسطين التاريخية. 2- إجبار اللاجئين الفلسطينيين، الذين يتجاوز عددهم الآن 6 ملايين لاجئ، على التنازل عن حق العودة والقبول بتوطينهم في الخارج. 3- التسليم بضياع المسجد الأقصى والقبول بالقدس عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل اليهودية.
غير أن ذلك لا يعني أبدا أن الأجيال الفلسطينية التي عاصرت «النكبة» قصرت في المحافظة على وطنها، أو تراخت في الدفاع عن حقوق شعبها، كما لا يعني أبدا أن الجيل الحالي سوف يستسلم للمصير الذي يراد له ويقبل بتصفية قضيته. وقد أتيح لي أن أشارك مؤخرا في تأبين أحد الرموز الفلسطينية الكبار ممن عاصروا «النكبة» التي حلت بشعبهم ووطنهم، وهو الدكتور صبحي غوشة، في حفل أقيم يوم السبت الماضي في عمان. وأستأذن القارئ الكريم في أن أعيد هنا نشر الكلمة التي ألقيتها بهذه المناسبة، لعلها تسهم في تذكير الأجيال الفلسطينية والعربية المعاصرة بصفحة مشرقة من صفحات نضال الأجيال السابقة، وترد على المحاولات الرامية لتسفيه وتشويه هذا النضال، كجزء من المخططات الرامية لتمرير وتبرير «صفقة القرن». وفي ما يلي نصها:
«السيدات والسادة: أسرة المناضل الدكتور صبحي غوشة، الحضور الكريم:
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته
كنت واحدا من كثيرين أصابهم حزن شديد حين تلقوا خبر رحيل الدكتور صبحي غوشة في إبريل الماضي. ولأنني لم أتمكن من المشاركة في تشييع جثمانه الطاهر، فقد حرصت أشد الحرص على الحضور بنفسي إلى عمان للمشاركة في تأبين الراحل الكبير، رغم كثرة المشاغل وتقدم العمر. سببان رئيسيان دفعانني لهذا الحرص: الأول: موضوعي، ويتعلق بطبيعة القضية التي كرس الفقيد الكبير حياته من أجلها، ألا وهي القضية الفلسطينية. ولأنني أعتبرها واحدة من أنبل وأعدل القضايا، إن لم تكن القضية الأنبل والأعدل في التاريخ المعاصر، فمن الطبيعي أن أشعر بضعف شديد تجاه كافة الرموز الوطنية والقومية، التي كرست حياتها من أجل الدفاع عنها، والإبقاء عليها حية في وجدان الأجيال، رغم كل التحديات والصعاب. ولا شك عندي في أن الدكتور صبحي غوشة كان واحدا من هؤلاء، بل كان في مقدمتهم جميعا.
تمر القضية الفلسطينية حاليا بمرحلة هي الأخطر في تاريخها فصفقة القرن، سوف تؤدي إلى تصفية القضية كليا
أما الثاني: فذاتي، ويتعلق بمعرفتي الشخصية، حتى إن كانت محدودة، بالراحل الكبير، فقد أتيح لي أن التقي بالدكتور غوشة في مناسبات عدة، سواء إبان فترة إقامتي في عمان، حين شرفت بشغل منصب الأمين العام لمنتدى الفكر العربي خلال الفترة من 2007- 2009، أو إبان مشاركتي في الندوة السنوية التي كانت تنظمها «جمعية يوم القدس»، التي أسسها وظل يدير نشاطها بنفسه حتى آخر يوم في حياته، وكانت مشاركتي في ندوة العام الماضي هي المناسبة الأخيرة التي التقيت فيها بالدكتور غوشة. وكنت أشعر دائما، في كل مرة التقيته أو تحدثت معه تليفونيا، أنني ليس فقط أمام مناضل كبير وإنسان شديد التواضع في الوقت نفسه، ولكن أيضا أن صداقة قديمة وعميقة ومشاعر ود حقيقية تربط بيننا.
ولد الراحل الكبير في حي الشيخ جراح بالقدس، وكان عمره أقل من عشرين عاما حين وقعت نكبة 48، التي مكنت إسرائيل من احتلال الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية. ومما يلتفت النظر هنا ويدعونا للتأمل، أن الشاب الذي قرر التوجه لدراسة الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت في بداية الخمسينيات، كان لديه من الوعي ومن النضج السياسي ما يكفي للالتحاق بحركة القوميين العرب، التي اسسها المناضل الكبير جورج حبش ورفاقه. وحين تفرقت السبل بهذه الحركة في وقت لاحق، قام الراحل الكبير بتأسيس جبهة النضال الشعبي، التي اعتبرت النضال بكل أشكاله، خاصة النضال المسلح، هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين المحتلة، وبسبب نشاطه فيها دخل السجن عدة مرات إبان حقبة الستينيات.
تدل المسيرة الفكرية للراحل الكبير أنه كان في طليعة من استوعبوا طبيعة المشروع الصهيوني، وأدركوا في مرحلة مبكرة من حياتهم أنه لا يشكل خطرا على فلسطين وحدها، أو حتى على العالم العربي ككل، وإنما يشكل خطرا في الوقت نفسه على القيم الإنسانية النبيلة، التي ناضلت البشرية طويلا من أجل ترسيخها، كقيم الحرية والعدل والإخاء والمساواة. فالمشروع الصهيوني هو في جوهره مشروع استعماري استيطاني عنصري، وبالتالي مشروع استبعادي بطبيعته لا للفلسطينيين فقط، ولكن لكل ما هو غير يهودي. هذا الإدراك المبكر والواعي، ولّد لدى راحلنا الكبير إيمانا جازما بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية محلية تخص الشعب الفلسطيني وحده، وإنما هي أيضا، إلى جانب بعدها الوطني، قضية قومية تهم كل العرب، مسلمين ومسيحيين، بل تهم كل المدافعين عن قيم الحرية والعدل والمساواة في العالم أجمع. وكان من الطبيعي أن يترتب على هذا الإدراك الواعي يقين كامل بأن فلسطين لن تتحرر فعلا إلا بهزيمة المشروع الصهيوني هزيمة تامة، وأن هذا التحرير يجب أن يكون تاما وكاملا ومن البحر إلى النهر.
لم يكن الدكتور غوشة سياسيا بالمعني الحزبي أو الفصائلي، ولم يكن عقائديا بالمعنى الدوغماتي أو السطحي، لكنه كان سياسيا منفتحا يدرك قيمة الحوار مع الآخر المختلف سياسيا وفكريا، ويدرك أن قضية فلسطين أكبر من كل الفصائل ومن جميع الأيديولوجيات، ويدرك أن فلسطين لن تتحرر إلا بحشد وتعبئة جهود كل الفلسطينيين، وجهود كل العرب، وجهود كل أحرار العالم، وهي قناعات دفعته للنأى بنفسه بعيدا عن التجاذبات الفصائلية والحزبية، التي راحت تنغمس في جدل عقيم حول جدوى التسوية أو «العملية السياسية»، ورسخت لديه في الوقت نفسه إيمانا عميقا بحتمية تحرير فلسطين التاريخية كلها، من البحر إلى النهر. لذا ظل راحلنا الكبير قابضا على الجمر ومتمسكا بالمبادئ والثوابت الفلسطينية والقومية حتى آخر لحظة في حياته، ومن ثم لم يتردد في تقديم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عقب دورته الشهيرة التي عقدت في الجزائر عام 1988، أو في توجيه الانتقادات اللاذعة إلى اتفاقية أوسلو وظل حتى وفاته مدافعا عنيدا عن حقوق الشعب الفلسطيني، ورافضا لكل مظاهر الانتهازية السياسية التي تستهدف المتاجرة بالقضية.
حسن نافعة