دولي

عن أزمة حماس وآفاق المشروع الوطني الفلسطيني

القلم الفلسطيني

تكشف تصريحات القيادييْن في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فتحي حماد بشأن "قتل اليهود"، ومحمود الزهار بخصوص "استعادة حماس علاقتها مع نظام بشار الأسد"، عن طبيعة الأزمة التي تعانيها الحركة، والتي تتزامن مع تفاقم مأزق "المشروع الوطني الفلسطيني"، في ظل بيئةٍ حبلى بمتغيراتٍ استراتيجية خطرة، على الصعد الخليجية والعربية والإقليمية والدولية.

لا تحتاج "حماس" في مثل هذه "البيئة المتغيرة" إلى خطاباتٍ عن "قتل اليهود" إذا أرادت توجيه رسائل إلى إسرائيل وداعميها، ناهيك أن تصريحات بعض قيادات الحركة في غزة تخالف وثيقة المبادئ والسياسات العامة، التي أصدرتها قيادة الخارج في 1 مايو/ أيار 2017، وخصوصاً المادة 16: "تؤكد حماس أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين"، فهل كانت تلك الوثيقة مجرّد تكتيك آني، للتعامل مع موجة العداء للحركات الإسلامية التي تفاقمت، بعد وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في أميركا؟ أم أن "حماس" أصدرتها لأنها باتت بالفعل أكثر فهماً لماهية الصراع مع المشروع الصهيوني، ولطبيعة الأدوات النضالية المطلوبة لإنجاح المشروع الوطني الفلسطيني؟ أم أن هناك تبايناً بين اجتهادات قيادات "حماس" في الداخل والخارج؟ أم أن هناك إخفاقاً 

"لا تحتاج "حماس" في مثل هذه "البيئة المتغيرة" إلى خطاباتٍ عن "قتل اليهود" إذا أرادت توجيه رسائل إلى إسرائيل وداعميها" فلسطينياً عاماً في إعادة تعريف القضية الوطنية على نحو صحيح، بما يعيدها إلى مكانتها اللائقة، بوصفها "قضية مركزية"، بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، وبالنسبة لقضايا التحرّر الوطني في العالم، في ظل صعود تيارات "اليمين الشعبوي" في غير مكان، بالتزامن مع تنامي مشاعر كراهية المهاجرين، وتوظيفها ورقة انتخابية على نطاق واسع؟ 

ولعل توسيع نطاق الصراع مع إسرائيل إلى خارج أرض فلسطين التاريخية، و"تكثير الخصوم" عبر طرح فكرة "استهداف اليهود في كل مكان"، ولو في تصريحٍ عابر لشخصياتٍ ضيقة الأفق السياسي، قد لا يقل خطورةً عن تكرار أخطاء "حماس" وفصائل أخرى، في التعامل مع الموجة الأولى من الثورات العربية أواخر 2010؛ إذ جرت ممارسة "سياسة انتظار"، والتعويل على المتغيرات العربية لتكريس الانقسام الفلسطيني، بدلاً من السعي إلى إنهائه بوصفه "أولويةً فلسطينية قصوى، لا تقبل المماطلات والمماحكات الفصائلية"، مع إهمال قيام الكل الفلسطيني بمراجعاتٍ وتحركاتٍ داخليةٍ تعزّز قدرة الشعب على خوض نضالٍ متجددٍ وممتد بأساليب مختلفة مع إسرائيل، على الرغم من وجود إرهاصات حراك شبابي ضاغط لحل معضلة الانقسام المشؤوم. 

واستطراداً يمكن القول إن قيادات "حماس" ربما لا تستفيد شيئاً من مدح طهران أو نظام بشار الأسد أو أي من حلفائهما، خصوصاً في ظل تضييق إدارة ترمب عليهم. بل قد يعمّق ذلك مأزق "حماس"، ويُدخلها في خضم الاستقطاب الإقليمي المتصاعد (حول "معضلة إيران" و"أمن الخليج" و"عودة قوات أميركية إلى السعودية"). كما أنه قد يُكسب "حماس" عداوةَ شعوبٍ عربية مظلومة، تكافح للتخلص من آثار سياسات نظام طهران ومليشياته الطائفية في العالم العربي، فضلاً عن أنه يعطي ذرائع وذخيرة متجدّدة لـ"المتصهينيين العرب" المهرولين إلى التطبيع مع إسرائيل، ويؤكد مزاعمهم بتبعية "حماس" ومجمل قوى المقاومة الفلسطينية للمحور الإيراني، وإهمالها "العمق/ الظهير الخليجي" الذي يعاني الأمرّين حالياً من سياسات إيران.

ليس عيباً أن تراجع "حماس"، والقوى الفلسطينية كافة، خطاباتها وسياساتها واستراتيجياتها، لتحقيق ثلاثة أهداف: تجنّب الأخطاء السابقة، وتوسيع الآفاق أمام المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة رسم استراتيجية وطنية لمسيرات العودة المستمرة على حدود غزة منذ 30 مارس/ آذار 2018، وتخليصها من التوظيفات/ التكتيكات الفصائلية، توطئةً لإطلاق انتفاضة فلسطينية شاملة، تبقى أهم أدوات النضال الملائمة لتقليص إمكانية تهميش قضية فلسطين وتحييد التأثير السلبي للمتغيرات الجارية خليجياً وعربياً إقليمياً ودولياً، في إطار إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، ورغبة إدارة ترمب في أن تجعل إسرائيل مركز النظام وقيادته، على حساب الفلسطينيين والعرب والإيرانيين والأتراك دائماً. 

أما بعد النهوض بالعامل الذاتي الفلسطيني، وإصلاح البيت الداخلي، فإن ثمّة حاجةً فلسطينية ماسّة إلى العمل على عنصرين إضافيين؛ أحدهما الاستفادة من "عودة الروح" إلى الثورات  ربما لا تستفيد شيئاً من مدح طهران أو نظام بشار الأسد أو أي من حلفائهما" العربية، عبر البوابتين السودانية والجزائرية، وتعزيز الإدراك بأن إرادة الشعوب هي التي ستنتصر، في النهاية، على إسرائيل وقوى التطبيع والثورات المضادة التي أحبطت الموجة الأولى من الثورات العربية، ولا تزال تعمل بكل قوتها للالتفاف على ثورتي السودان والجزائر وإجهاض أية إمكانية لحصول تغيير إيجابي لمصلحة الشعوب العربية، وتحقيق مطالبها العادلة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية. والآخر بلورة تصوراتٍ نظرية فلسطينية عن "تحالفات رسمية وشعبية جديدة"، وإدراك أهمية مسألة "التشبيك" مع منظمات المجتمع المدني العالمي، المناهضة للسياسات الأميركية، ودعم حركات مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، وتعزيز حركة التضامن الدولية مع فلسطين، وإيلاء هذا المستوى ما يستحقه من تركيز واهتمام وعمل، لتشكيل رافعة مدنية/ دولية لقضية فلسطين، لتجاوز الشهور المتبقية من عمر إدارة ترمب المأزومة وإضعاف فرص تمرير "صفقة القرن"، وتحويلها إلى فرصةٍ لإعادة التوعية بقضية فلسطين، وفضح تنكر واشنطن الدائم لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. 

يبقى القول إن إنجاز مهام إعادة بناء الإنسان والمجتمع الفلسطينيين، وتعزيز قيم المشاركة والتعاضد، وإبراز أولوية ترميم المشروع الوطني الفلسطيني، وإحياء مؤسّساته الجامعة، وفي مقدمتها منظمة التحرير، تقتضي كلها إحداث تغييراتٍ جذريةٍ واسعة في أسس السياسة الفلسطينية الداخلية، مع إدرك خطورة المتغيرات النابعة من التطبيع الخليجي الإسرائيلي المتسارع، وانعكاساتها على تهميش قضية فلسطين أكثر، وإبراز ما يسمى "مكافحة التهديد الإيراني" بوصفه المتغير الاستراتيجي الحاكم لمجمل التفاعلات في النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، في العامين المقبلين. 

باختصار، يبدو مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني إيجابياً، وأن أفق التغيير العربي ليس مسدوداً، خصوصاً إذا نجح العرب والفلسطينيون في تجاوز أخطاء المرحلة السابقة، وأهمها تجنّب الرهانات الخاطئة على "الدعم الخارجي" في إنجاز مهام تتعلق بالاستقلال الوطني والتنمية والحرية؛ فالشعوب الواعية هي التي تأخذ خياراتها بأيديها، ولا تسمح لأحدٍ، مستبداً داخلياً أم محتلاً خارجياً، بأن يقرّر مصيرها نيابةً عنها.

أمجد أحمد جبريل

 

من نفس القسم دولي