دولي

إما الصيد أو الحرب

القلم الفلسطيني

ليست هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها “إسرائيل” إلى استخدام ورقة الصيد، كردٍّ على البالونات الحارقة التي تطلق من قطاع غزة، بل كدنا القول بأن التلاعب بمساحة الصيد أو حتى منعه تماماً باتت مقترنة بمساحة الحرائق في غلاف غزة.

تشير حالة التلاعب هذه على اعتبارها ردًّا لقلة وضيق الخيارات المطروحة على الطاولة الإسرائيلية، في ذات الوقت تجبر “إسرائيل” على الرد بأي صورة كانت، وذلك لاعتبارات انتخابية بحتة أولاً، ومن ثم لحفظ ما تبقى من قوة الردع وصورة للجيش أمام المجتمع الإسرائيلي الداخلي على أقل اعتبار ثانياً، في ضوء ذلك كان لزاماً على “إسرائيل” أن تبحث عن خيارات ووسائل جديدة – على هيئة ردود – من شأنها إبقاء الأوضاع الميدانية على ما هي عليه الآن وتأجيل المواجهة العسكرية غير الواردة في الأجندة الإسرائيلية لفترات أخرى من الزمن، وإلا فالخيار العسكري هو البديل والذي من الممكن أن يشعل فتيل مواجهة من جديد قد تطور إلى حرب غير اعتيادية.

وما يدلل على ذلك أيضاً هو ما نشرته وسائل الإعلام العبري بأن “إسرائيل” وجهت رسالة إلى السفير القطري محمد العمادي تمنعه من دخول غزة في خطوة غير مسبوقة ردًّا على البالونات الحارقة، والجدير ذكره أن العمادي بالإضافة إلى الوفد المصري باتا الوسطاء الدائمين عند وقوع جولات المواجهة سعياً لنزع فتيلها.

بالعودة إلى الوراء قليلاً بات من المعلوم بأن المقاومة أرست عبر أوراق متعددة كان أبرزها مسيرات العودة والإرباك الليلي على الحدود، قواعد اشتباك جديدة بشكل تدريجي، مما نتج عن ذلك قلة الخيارات بالنسبة لـ“إسرائيل” في التعامل مع هذه الظواهر والتي يمكن تعريفها بأنها مظاهر حرب استنزاف لا طاقة للأخيرة بها.

تبقى غزة حاضرة في الانتخابات في ضوء سباق انتخابي محموم لاسيما بين نتنياهو من جهة وغانتس ومن خلفه من جهة أخرى، لكنها فرضت على جميع الأحزاب نمطاً واحد عند الحديث عنها، وأصبح هنالك شبه إجماع لدى جل السياسيين في “إسرائيل” بفشل الخيار العسكري مع غزة وأنه آخر الأوراق ذات الثمن، ويعود ذلك أيضاً إلى قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة منذ انطلاق مسيرات العودة، وهذا ما أكد عليه الجنرال ”غابي سيبوني” في مقال له نشر على موقع “واللا” على ضرورة أن تكون الحرب هي الخيار الأخير، فاحتلال القطاع وتدمير حماس له جدوى، مع تذكر الأثمان الباهظة.

إذاً يمكن لنا القول بأن سياسية “إسرائيل” الحالية تجاه غزة تتلخص نحو كسب المزيد من الوقت حتى انتهاء الانتخابات الداخلية المعادة، واستكمال بناء الجدار الأمني العازل الأرضي على حدود قطاع غزة والذي من شأنه أن يقوض المقاومة حسب الرؤية الإسرائيلية، لكن الحالة السياسة غير المستقرة في “إسرائيل” قد تعيد ترتيب أولويات المؤسسة السياسية وتبقي ملف الحرب بعيداً عن الطاولة حتى بعد اتمام الانتخابات وتشكيل الائتلاف الحكومي، لكن ذلك لن ينهي حالة الجدل الدائرة في الأوساط السياسية حول غزة ومستقبلها.

خلاصة الأمر، نرى بأن “إسرائيل” لا تملك مساحة واسعة للمناورة وباتت تفقد أوراق الضغط التي كانت تمتكلها في التعامل مع قطاع غزة، ولجوؤها إلى بدائل باهتة من شأنها أن ترسي قواعد اشتباك جديدة إن أحسنت المقاومة استغلال هذه الحالة جيداً كما السابق، مما يجعل المؤسسة الإسرائيلية عموماً ونتنياهو خصوصاً في موقف محرج أمام المجتمع الداخلي الإسرائيلي، أضف إلى أن هذه الحالة الدائرة اليوم سجلت فشلاً على الفشل المتراكم في سجل “آفيف كوخافي” رئيس هيئة الأركان الجديد في جيش الاحتلال.

سبق الانسحابَ الإسرائيلي من غزة عام 2005 حالة استنزاف منظمة للمستوطنات، دفعت الاحتلال حينها إلى إعلان خطة فك ارتباط عن قطاع غزة، بعد أن أصبحت المستوطنات الإسرائيلية داخل القطاع شبه خاوية.

هنا تتجلى حيوية فكرة المقاومة. وقد حاول الاحتلال بعد رحيله عن غزة استخدام استراتيجية أخرى لمكافحة هذه الحيوية، تمثلت في التعامل مع غزة على اعتبارها كياناً منفصلاً وإغراقه بالمشكلات الداخلية والنزاعات مع المشكلات الإنسانية، وإشغاله بأوجه المعاناة الشديدة بفرض الحصار عليه.

شكل المعركة بين الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة اختلف منذ إطباق الحصار على القطاع، وكان على شكل مواجهات واسعة ومفتوحة في مجمله من قبيل ثلاث حروب في الأعوام 2008 و2012 و2014، ومنذ العدوان الأخير في عام 2014 وغزة تتعرض لتضييق شديد على الصعد كافة. 

انعكست آثار ذلك العدوان المدمّر أيضاً على الأداء الميداني لفصائل المقاومة، حتى استعادت زمام المبادرة في آخر سنتين تقريباً وباتت تستخدم سلاحا فاعلا مجدداً في مواجهة القصف والعدوان الإسرائيلي، وكان من الواضح لكل متابع لجولات التصعيد الأخيرة تطوّر قدراتها العسكرية وتطوّر أسلحتها والقدرة التدميرية لصواريخها.

مستوطنات الاحتلال في محيط قطاع غزة كانت الأكثر استهدافاً ومن ثم استنزافاً في الجولات الأخيرة، وأيضاً جرى استنزافها من قِبل الشبان ضمن فعاليات شعبية ثورية استخدمت البالونات الحارقة لحرق المحاصيل في المستوطنات، وغيرها من الأساليب التي كان عنوانها حسب أصحابها، وقف الاستنزاف مقابل رفع الحصار.

لا شك أن غزة تعاني أوضاعاً إنسانية بالغة الصعوبة والتعقيد، وأن الضفة تعاني من تهديد ومخاطر تستهدف الهُوية الوطنية الفلسطينية في ظل الحديث عن مخططات ضم قريبة؛ لكن الاحتلال أيضاً وبفعل المقاومة، يعاني من تهديدات أخرى غير محدودة، واستنزاف باتت آثاره واضحة في مستوطنات غلاف غزة.

ياسر مناع

 

من نفس القسم دولي