دولي

النكبة الفلسطينية بين النقد وجلد الذات

تحتاج التجربة الفلسطينية إلى المراجعة لتقييم الأداء السياسي، ليس على مدى خمسة عقود من عمر تجربتها الحديثة فحسب، بل على مدى القرن العشرين كاملاً، بل هي تحتاج إلى ما هو أكثر من المراجعة، تحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، على الرغم من أن هذه التجربة لم تنتهِ بعد. ولا شك أنها كانت مليئة بالوقائع المشرّفة، كما كانت مليئة بالأخطاء التي تحتاج إلى مراجعة ونقد. وبطبيعة الحال، يذهب النقد إلى إعادة النظر في القدرة الذاتية على صناعة المستقبل، وعندما يتم الاستنكاف عن صناعته على الوجه الأفضل، فإن ذلك يحتاج إلى النقد، بل وإلى النقد القاسي والنقض، حتى يتم التعلم من التجربة، ولا تتكرر أخطاؤها وخطاياها. بهذا المعنى، إعادة النظر ونقد أي تجربة له مزايا كثيرة وفوائد كبيرة، لأن الحاضر، بشكل أو بآخر، ابن الماضي، والمستقبل ابن الحاضر. وبالتالي، هناك ترابط وثيق بين الماضي والمستقبل عبر جسر الحاضر. على الرغم من ضرورة ذلك، هناك فارق كبير بين مراجعة التجربة ونقدها، وبين جلد الذات بوصفها مسؤولة عن أحداث تاريخية كان يمكن تجنبها، في وقتٍ كانت هذه الأحداث أكبر من القدرات الذاتية على التأثير وتغيير مسار الأحداث. 

وحتى لا يبقى الحديث في الإطار النظري، فإن التجربة الفلسطينية هي المثال الحي على الخلط بين جلد الذات والنقد الموضوعي. أحياناً تكثر الأقلام التي تلوم الذات الفلسطينية على مجريات الأحداث، بوصف الفلسطينيين كانوا الطرف الفاعل الذي يملك القدرة على تغيير مجرى الأحداث، لو كان الأداء السياسي الفلسطيني مختلفا. ويبدأ جلادو الذات أمثلتهم من تجربة النكبة في العام 1948، وتحديداً يُحمّلون مسؤولية ما جرى للفلسطينيين لأنهم رفضوا قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في 1947. وتعتبر هذه الأقلام أنه لو وافق الفلسطينيون على هذا القرار لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من واقع مترد. وتعتبر وجهة النظر هذه أن السلام كان يمكن تحقيقه في المنطقة منذ وقت طويل، لو كان الموقف الفلسطيني مختلفاً في ذلك الوقت، ولكنا حققنا الدولة الفلسطينية على رقعة جغرافية من أرض فلسطين، تبلغ ضعف المساحة التي يطالب الفلسطينيون بها اليوم. ما يعني لو أن الفلسطينيين أقرّوا بالواقع القائم في ذلك الوقت، لقامت الدولة الفلسطينية منذ وقت طويل وتجنبنا كثيرا من سفك الدماء الذي جرى في الحروب التي شهدتها المنطقة منذ ذلك القرار. 

على الرغم من إدراكنا أن التاريخ لا يمكن تحليله من خلال "لو" مهما كانت المسؤولية التي يتحمّلها الفلسطينيون عن مآلات الأحداث، فهم، في نهاية أي تحليل موضوعي، ضحايا الاحتلال" تاريخي بواحد آخر افتراضي، وأن تحليل التاريخ يقوم على درس المعطيات التاريخية التي جعلت التاريخ يسير في الطريق الذي سار عليه، لأن هذا الطريق تصنعه عوامل موضوعية، لا تمنيات مسقطة على التاريخ، لتجنب وقائع قاسية اليوم. ولكن لا يعيب مناقشة هذا الافتراض الذي يحاول أن يجر نفسه على واقع اليوم، طالباً من الفلسطينيين التعامل مع "الواقع القائم"، وهذا التعبير هو الاسم الحركي للاستسلام فعلياً. 

أعتقد أنه حتى ولو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم، وقبلوا كل الشروط المجحفة في حقهم، وفي حق وطنهم من اقتطاع أكثر من نصفه، ومنحه للعصابات الصهيونية، لما قامت الدولة الفلسطينية، فالقضية لم تكن قضية "الدولة الفلسطينية" في ذلك الحين، بل على العكس، كانت القضية قضية "الدولة اليهودية" الذي وجد التحالف الدولي المنتصر في الحرب العالمية الثانية نفسه يحل أحد مشكلاته الداخلية على حساب الشعب الفلسطيني، بخلق هذه الدولة اليهودية في فلسطين. ولم يكن هذا الكسر لتاريخ المنطقة ممكناً من دون توافق الدول المنتصرة في تلك الحرب على قيام "دولة إسرائيل" التي كان وجودها بحاجة إلى قرار دولي، ومن أجل تشريع الاغتصاب الصهيوني لأراضي فلسطين، ومحاولة إعطائه شرعية عبر تكريس هذه الدولة في قرار للأمم المتحدة. بمعنى آخر، كان الحدث التاريخي على الأرض الفلسطينية أكبر من موافقة الفلسطينيين على القرار 181 أو رفضهم له، وكانت المؤامرة أكبر من قدرتهم على التصدّي لها. وهذا لا يمنع مراجعة التجربة الفلسطينية ونقدها، ولكن بما لا يغير قراءة المعطيات الموضوعية للحظة التاريخية التي وقعت فيها الأحداث. لقد تقاطعت معطيات ووقائع تاريخية عديدة لصناعة الكارثة الفلسطينية في 1948، وكان الفلسطينيون والتخلف الذي يعيشونه يتحمل جزءاً من المسؤولية عما جرى، ولكنه الجزء غير الحاسم من القصة، فالتخلف الذي عاشه الفلسطينيون، وعدم تبلور مفهوم الوطنية.. إلخ، من النقد الذي يمكن توجيهه إلى التجربة الفلسطينية، وإلى القيادات الفلسطينية، والذي لا يبرّر ولا يفسر الجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم 

وتشريدهم في دول الجوار وعبر العالم. وليس تخلف الشعب، أي شعب، مبرّراً وسبباً لتدميره واقتلاعه من أرضه، والاستيلاء على وطنه. لقد تعرّضت فلسطين والفلسطينيون إلى خطر أكبر من قدرتهم على التصدّي له: تقاطع دولي غريب من نوعه، لم يتوافق على جريمة تدمير الوطن الفلسطيني وسحقه فحسب، بل وشرَّع هذا التدمير أيضاً. وتواطأت أطرافٌ عربية مع التقاطعات الدولية لمنع أي ظهورٍ فلسطيني على الخريطة السياسية للمنطقة، ما احتاج من الفلسطينيين إلى عقدين من النضال ضد التغييب الذي جرى لهم، من أجل أن يعودوا إلى الظهور شعبا على الخريطة السياسية. 

بالطبع، لا يمكن معالجة موضوع كبير مثل النكبة بهذه العجالة، ولكن ما يراد قوله إنه لا مبرّر لجلد الذات بتحميل الفلسطينيين وحدهم المسؤولية عما يجري لهم، وكأنه لا وجود للاحتلال ولمحتل، وكأن ليس هناك ضحية وجلاد في هذا الصراع. مهما كانت المسؤولية التي يتحمّلها الفلسطينيين عن مآلات الأحداث، فهم، في نهاية أي تحليل موضوعي، ضحايا الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يسلبهم حقوقهم فحسب، بل وحطم مجتمعهم وسلبهم ديارهم أيضاً، وأي قلبٍ للمعادلة، هو جلد للذات ومعاقبة الضحايا، من دون أن يمنع ذلك الحق في نقد الطرف الفلسطيني الذي يحتاج إلى نقد كثير.

سمير الزبن

 
 

من نفس القسم دولي