دولي

الحكومة خارج الاستعصاء الفلسطيني

القلم الفلسطيني

يُصدق الفلسطينيون (السلطة الفلسطينية) أنفسهم بأن عندهم حكومة، وأن تغيرها سيحدث فرقاً في واقع الحال الفلسطيني المتردّي، أو هكذا توحي السلطة في رام الله. كأن القابعين في السلطة نسوا أنهم سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، وأن تغيير الحكومات لن يكون له تأثير في السياق السياسي الذي يشكل عقدة العقد الفلسطينية، المتمثل في حالة الانقسام الداخلي المستمرة منذ أكثر من عقد. حتى أن كتاب التكليف لم يتحدث عن أي صلة للعمل على إنهاء الانقسام للحكومة التي سيشكلها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد اشتية، وبالتالي نحن أمام حكومة إدارية، ستكون امتدادا للحكومة السابقة بوجوه جديدة.

إذا أعدنا القضايا الفلسطينية إلى أصلها، وقاربناها من الواقع، وليس من الادعاءات، فإننا سنكون أمام حالة فصام فلسطيني مرضي. التعامل مع الذات (السلطة الفلسطينية) بوصفها سلطةً على الفلسطينيين، يوحي بأن هناك حكومة بالفعل، ولها هيبتها، وحكومات يتم تغييرها من أجل الوصول إلى سياسات جديدة، ولكن هذا التغيير دائماً لا يأتي بما هو مرجوٌّ منه. عند التعامل مع إسرائيل، تتم العودة إلى حقيقة السلطة، بوصفها حكما ذاتيا يستمر بالتقلص أمام الاحتلال المتحكم بهذا الحكم الذاتي، والذي تفرض عليه شروطا مجحفة واحتلالية لا حصر لها. في هذه الحالة، يتم التهديد بـ"حل السلطة"، وبالتالي العودة إلى الاحتلال المباشر الذي لم يغادر الضفة الغربية فعلياً، بل حتى أنه عاد إلى أماكن كان قد خرج منها بموجب اتفاقيات أوسلو الانتقالية. وإذا أردنا أن نحدّد التناقض الفلسطيني القائم اليوم في موضوع السلطات، يمكن القول إنه لا مجال للحديث عن حكومةٍ، لا بالمعنى الإداري ولا بالمعنى السياسي، من دون إنجاز الدولة. ولأن الفلسطينيين لم يحققوا دولتهم إلى الآن، فلا يمكن الحديث جدّياً عن حكومة ذات صلاحيات سياسية، أو حتى إدارية كاملة، قادرة على تحقيق إنجاز حتى في القضايا المعيشية.

ببساطة، "الحكومة الفلسطينية" هي الإدارة الذاتية التي تدير شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية اليوم، وقطاع غزة قبل الانقسام. لكنها تدير هذه الشؤون بإشراف الاحتلال الذي ما زال يحتل الضفة الغربية. ترجع فكرة التخلي الإسرائيلي عن إدارة حياة الفلسطينيين إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، الذي وقعت حكومته اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير. عندما قال في تبرير هذا الاتفاق إن أبويه (رابين مولود في فلسطين) لم يأتيا إلى هذه الأرض من أجل التحكّم بحياة الفلسطينيين، كان يعني بذلك أن على إسرائيل أن تتخلص من حكم الفلسطينيين، وليس التخلص من السيطرة على الأراضي الفلسطينية. وقد كان له ذلك، فقد خرجت قوات الاحتلال من المدن، وتسلمت الشرطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية مهمات الأمن في التجمعات الفلسطينية، التي ضمت حوالي 90% من الفلسطينيين على 18% من الأرض، وهذا ما أبعد الجيش الإسرائيلي عن التجمعات الفلسطينية، وخفف من الاحتكاك بين الطرفين من جهة، ومن جهة أخرى، باتت كلفة الاحتلال أرخص بتمويل الولايات المتحدة وأوروبا السلطة الفلسطينية. استمرت إسرائيل في احتلال الأرض الفلسطينية، وفي تعزيز غول الاستيطان الذي ابتلع مناطق واسعة من الضفة الغربية. وضع أعطى إسرائيل عالمياً وجها "سلاميا" مع استمرارها قوة محتلة. لا تزال اتفاقيات أوسلو المؤقتة كحل مرحلي، والتي كان يُفترض أنها ستنتهي إلى حل نهائي في العام 1999 تحكم العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بعد عشرين عاماً من العام الذي كانت المرحلة النهائية ستنتهي به.

أساس المشكلة الفلسطينية أن الأراضي الفلسطينية محتلة، بمعنى أن القضية المركزية في الحقوق الوطنية والدولة لم تحل بعد، وبالتالي، فإن تشكيل حكومة الإدارة الذاتية التي اخترعها الاحتلال، على أهميتها، قضية هامشية، فحركة فتح التي تتحكم في السلطة الفلسطينية لا تريد التوصل إلى مصالحة فلسطينية ـ فلسطينية، وقد تكون لا تستطيع ذلك بسبب ارتباطاتها، وهذا طبعاً لا يعني أن حركة حماس تريد هذه المصالحة. الطرفان يتحملان المسؤولية المشتركة عما وصل إليه الحال الفلسطيني. ولأنه لا مجال للتحرّك في الرئيسي، نستطيع التحرّك في الهامشي، لتظهر حركة فتح بأنها تقوم بعمل ما، إنها تغير الحكومة، لإنجاز مهماتٍ لم تنجزها الحكومة السابقة، لكننا جميعاً نعرف أن المهمات التي لم تنجز على الساحة الفلسطينية في العقدين المنصرمين لم تكن مهماتٍ حكومية، إنما كانت مهماتٍ سياسية، القوى السياسية هي المعنية بها، وهي التي فشلت في أن تكون على مستوى المسؤولية الوطنية، في الحفاظ على مشروعها الوطني الذي يؤسس لتجسيد هذه الحقوق في دولةٍ كحق طبيعي للفلسطينيين تنبثق عنها حكومةٌ لإدارة المهمات السياسية والإدارية. أما الإدارة الذاتية التي سميناها حكومة أو وزارة، فهي خارج القضايا الرئيسة على الساحة الفلسطينية اليوم.

من دون حل القضايا الفلسطينية العالقة على المستوى الوطني، وفي مقدمتها استعادة المشروع الوطني، بوصفه الطريق الوحيد لتجسيد الحقوق الفلسطينية على الأرض الفلسطينية، فإن ما نراه فلسطينياً ليس سوى ذر الرماد في العيون، والعمل على استمرار الوضع الفلسطيني المزري لأمد مفتوح، وبالتالي، دفع المشروع الوطني إلى التفكك، ودفع الساحة الفلسطينية إلى صراعاتٍ داخلية، ذات طبيعة مطلبية، أو تقاسم مصالح، وبالتالي الغرق في تفاصيل هامشية، لا تغير شيئاً في القضية الأساسية.

يشير شكل الإدارة السياسية في رام الله إلى تجاهل الاحتلال في التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى، للحفاظ على السلطة الفلسطينية المهدّدة بأوضاعها الداخلية، ومن إسرائيل ومن الإدارة الأميركية. وليس الحال في غزة أحسن حالاً، فالمطالب المشروعة للمواطنين بالعيش الكريم لا يمكن الرد عليها بإطلاق النار على المواطنين وضربهم واعتقالهم، لا يجوز التعامل مع الفلسطينيين بسلوكيات قمعية ذات طابع إسرائيلي. الانشغال بقمع البشر يجعل القامع ينسى مهمة الصراع مع العدو الرئيسي، أي الاحتلال. على الجميع العمل للخروج من هذه الحفرة القاتلة.

سياسة النعامة، بدفن الرأس لعدم رؤية القضايا الرئيسية، والانشغال في الهوامش، يجعل القضايا الهامشية تطغى على الرئيسية. ومع الوقت، تتحول القضايا الهامشية إلى مركزية، عند عدم القدرة على حلها، وتتحول إلى قضايا متفجرة. وهذا ما نراه، في الفترة الأخيرة، ليس في قطاع غزة فحسب، بل وفي الضفة الغربية أيضاً.

سمير الزبن

 

من نفس القسم دولي