دولي

الفلسطينيون وهذه الألغام

في ظل السياسات الانتظارية والبرامج "اللاأدرية" السائدة في واقع الحال الفلسطيني، كما في ظل الأمر الواقع السائد في غزة، وغياب قيادةٍ سياسيةٍ متماسكةٍ عن مهام الكفاح التحرّري والمقاومة الشعبية وروح الانتفاض الثورية، توشك صفقة القرن الترامبية، وتواطؤات المطبّعين العرب مع أصحابها، أن تستأنف عملية تخريب الوضع الوطني الفلسطيني وتدميره، وإعادة ترصيد معظم المكان الفلسطيني، وضمّه إلى "ممتلكات" ومملكة المشروع التهويدي، القائم على السلب والاغتصاب والاستيطان، وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وممتلكاتهم، في وطن لهم منذ أزل ما قبل الكنعانيين؛ وستبقى الأرض الفلسطينية أرض الفلسطينيين، حتى ولو لم تقم لهم دولة عليها، وحتى لو لم تستطع "سلطة أوسلو" تحقيق دولتها الناقصة في الضفة الغربية والقدس، وهي الدولة الناقضة أصلا، وفصلا لحقوق الفلسطينيين التاريخية في وطنهم التاريخي الذي لا وطن لهم سواه.

ولئن لم يجد المدعوون الفلسطينيون إلى موسكو ما يتفقون أو يتوافقون عليه، على الرغم من أن كثيرين منهم يتشدّقون بما يعاكس مواقفهم التي تكشفت عن فضائح سياسية ووطنية، لا تشرّف شعبهم وقضيته الوطنية، فقد عادوا من موسكو أكثر إصراراً على الانقسام؛ وحتى الانفصال بين بقايا شطري الوطن المحتل كله، وهذه ليست المرة الأولى التي يعاند بعض منهم اتجاه الريح الشعبي، استمساكاً بمصالح فئوية وزبائنية، تقودها وتتلاعب بها الرياح السلطوية على جانبي "الأمر الواقع" الذي يبدو أنه خرج عن إطار السيطرة الوطنية المفترضة على واقع الحال الفلسطيني، فيما الاتجاه الغالب قد بدأ ينحو نحو الترنّح والانفلاش أكثر. وبالتالي، لم يعد هناك أي أمل باستعادة أقل القليل من وطنية الكفاح الوطني التحرّري الذي عهدناه منذ انطلاقة الثورة، وها نحن نشهد اليوم من يقوم بإجهاضها وطعنها في الظهر، عبر أفعال ومواقف ومراهقات غير مسؤولة، لا تصبّ في غير صالح الاحتلال. أولئك الذين على عتبة مصالحهم الخاصة باتوا يرذّلون الوعي، بكل وعي منهم، ولم يعودوا يدركون نتاج تداعيات سياساتهم ومواقفهم وأفعالهم وممارساتهم غير المسؤولة على قضية شعبهم الوطنية، والمسؤولية التاريخية التي يجب أن تبقى نبراساً هادياً لتحقيق الأهداف الوطنية، بدل التلهي بتلك السياسات، والقرارات الفئوية والنرجسية المقيتة، وهي تستبدل وطناً متجسّداً على الأرض بخرافات وأوهام غيب وغيبيات سلطة ودولة موهومة تحت الاحتلال، وأوهام "خلافة" لا تقيم وزنا لأرضٍ أو لوطن. 

ولهذا، وبروح السلطة الأبوية، وبدفع من مصالحها الفئوية، أبى المدعوون إلى موسكو إلا أن يتراجعوا عن توافقهم على بيانٍ سياسي، سبق التوقيع عليه بالأحرف الأولى، وكان هذا بداية إفشال اللقاء، وإلحاقه بسوابقه من لقاءاتٍ انفض سامرها من دون أن تُحقّق أيا من أهداف استعادة وحدة وطنية، باتت بعد "أوسلو" مرذولة، ليجري استبدالها بتجزيء الحالة الفلسطينية، وتعميق مسألة تشتيت "الكل الفلسطيني" وتقسيمه، ودفع أقسام من هذا الكل إلى الحضن الإسرائيلي، كما إلى أحضانٍ إقليميةٍ استمرأت التلاعب حد التآمر عبر بعض من هذا الكل، بقضيةٍ يزعمون أنها مقدسة. 

بهذا المعنى، يمكن القول إن الرسالة التي كان يوجهها الخائبون من التوصل إلى موقف فلسطيني موحد في موسكو، ولو بتوافق بياني/ لفظي، أظهرت بل وجسّدت عمق الخلاف السياسي والبرنامجي بين الأطراف الفلسطينية، ما جعلها تنعكس "إيجاباً" على "تحالف وارسو" الأميركي، من حيث إنها كانت رسالةً خيبةً، وتلاشي أي أمل باستعادة وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة "صفقة القرن"، والسياسات التطبيعية الإقليمية في توافقها مع مساعي نتنياهو وثلاثي الصفقة (غرينبلات وكوشنر وفريدمان)، وصولاً إلى الاستفراد بالحالة الفلسطينية وإسقاطها في جب التصفية، والتأكيد على التنكّر لقضية الشعب الفلسطيني الوطنية. 

على طريق تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، هناك محاولاتٌ دؤوبة، تكتيكية، لفرط السلطة الفلسطينية ، كان جديدها اقتطاع إسرائيل جزءاً من أموال الضرائب الفلسطينية، في وقت تزداد المخاوف من عدم قدرة السلطة على الاستمرار، ومجابهة سياسات تسارع العقوبات الأميركية – الإسرائيلية الهادفة إلى ابتزازها سياسياً، وربما يفرض عليها عقوباتٍ أشد، يتوقع أن تصل إلى مرحلة يتم فيها تجاوز السلطة، وربما إعادة تركيبها بما يستجيب لمشاريع المخططات الأميركية – الإسرائيلية التي يجري ترسيمها لإنهاء القضية الفلسطينية. 

يبقى، في المقابل، القول إنه، وفي حال استمر الرفض اللفظي الفلسطيني غير الموحد، أو المنسجم في مواجهة "صفقة القرن"، والتلاعب بالإجماع الفلسطيني، والاستفزازات الإسرائيلية المتمادية والتهديد بحربٍ على غزة، لن يقود هذا الوضع إلى تطوير الحال الفلسطيني وتماسكه في ظل منطق التحاصص والغلبة، ورفض تطبيق التوافقات التي أكدت على استعادة الوحدة الوطنية، وإنقاذ النظام السياسي الفلسطيني من الانهيار، في وقتٍ تزداد عمليات تجاوز السلطة عبر ارتفاع وتيرة تدخلات ما تسمّى الإدارة المدنية، والركون إلى زيادة أدوار العشائر التي يُراد لها أن تتماثل وأدوار روابط القرى العميلة، للقيام بمهام لا تخدم الحال الفلسطيني، بل تعاند الوضع الوطني، وتضع العصيّ في دواليب محاولات استعادة الوحدة الوطنية، بإسنادٍ من البعض الفصائلي والفئوي غير المبالي، والمستفيد من حال التشرذم والانقسام، حفاظا على سلطة ومصالح ذاتية جزئية له، لا تخدم قضية الشعب والوطن.

يتبيّن من هذا كله أن هناك مزيداً من تراكمات استعصاء في قدرة السلطة على مواجهة ما تجابهه من تحديات الاحتلال، فلا هي قادرةٌ على تطبيق ما قرّرته مؤسساتها (المجلسان المركزي والوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية) في شأن التنسيق الأمني، ومجابهة قرارات التحلل من اتفاقات أوسلو، وصولاً إلى اتفاقيات باريس الاقتصادية، حيث يُقال اليوم إن ذلك ليس ممكناً، وذلك لأسباب سياسية، تتعلق بأن ما يجري الحديث عنه في مجالاتٍ عديدة مرتبطة  فكانت رسالةً خيبةً، وتلاشي أي أمل باستعادة وحدة الموقف الفلسطيني" باتفاقيات أوسلو وبالاقتصاد، لا يمكن التنصّل منه أو تعديله، إلا في حال جرى تعديل الاتفاق أو الاتفاقات الأساس. وفي الواقع العملي، لا تملك السلطة القدرة على فرض تعديلاتٍ سياسية، ولا أدوات انسلاخها اقتصادياً عن منظومة الاحتلال السياسية والاقتصادية، في ظل انحياز أميركي وإقليمي ودولي، لم يعد يُوارب في إبداء دعمه وإسناده لكيان كولونيالي، يغالي في تحدي إرادة المجتمع الدولي.

أخيراً، إن قراءة متمعنة في واقع السلطة، تؤكد أن واقع قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، لم يعد يؤسس في مستقبل قريب، لأي شحنة أملٍ في استعادة ما فقده الشعب من طاقاتٍ كفاحية، يجري تجاهل هدف أو أهداف استعادتها ممن ينبغي أن تكون تلك مهمتهم الرئيسة، والأساس الذي قامت عليه نضالات قوى الحركة الوطنية. وما جرى في موسكو ومن بعد في وارسو، مؤشّرٌ فاضح على ما بلغه الحال الفلسطيني والعربي من هوانٍ واستهانةٍ بقداسة قضيةٍ يجري التفريط بها، والتآمر عليها علناً بمشاركة بعض من أصحابها، وذلك على مذبح صفقة أو صفقات تصفوية، لم يعد هناك من مجالٍ لإفشالها بغير الاعتماد على شعب القضية، والشعوب العربية الشقيقة وقواها الوطنية الحرّة، وقوى التحرّر والعدالة عبر العالم.

ماجد الشيخ

 

من نفس القسم دولي