دولي
مليونا مستوطن في الضفة
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 09 فيفري 2019
منذ "نكسة حزيران" عام 1967، بدأ الاحتلال تنفيذ مخططاته التهويدية التوسعية على كامل الأرض الفلسطينية، وهيأ الضفة الغربية لتكون مستوطنة كبرى تضم عتاة المستوطنين المتطرفين، وسن أسوأ القوانين التي تضيّق الخناق على الفلسطينيين، وحوّل 60% من مساحة الضفة إلى أراض ممنوع استثمارها أو الاستفادة منها من قبل أصحاب الأرض، وفعلاً نفذت أدوات «إسرائيل» مئات عمليات الهدم في هذه المناطق، وهجرت قرى، وحطمت عائلات، وما زالت تمارس أبشع خططها.
قبل أيام قليلة، أحيا «الإسرائيليون» وثيقة استيطانية تدعو لحقن الضفة بمليوني مستوطن، والعمل على إحلالهم، وهذا يعني زيادة عمليات اقتلاع الفلسطينيين، ومضاعفة التنكيل الذي يتعرضون له جراء اعتداءات قطعان المتطرفين المتفاقمة، ما يعني نكبة جديدة على من بقي في الأرض المحتلة، وتهجيرهم وممارسة التطهير العرقي بحقهم.
هذه الوثيقة ليست شيئاً عابراً؛ إذ إن من وضع فصولها إسحاق شامير الذي ترأس حكومة الاحتلال لدورتين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ولكن من سار على نهجها وأعاد طرحها من جديد، هم من أعلى الهرم العصابي الحاكم في «إسرائيل» الآن، فوقّع عليها أعضاء «كنيست» ووزراء، كما تظاهر «إسرائيليون» أمام بيت بنيامين نتنياهو لتطبيقها على أرض الواقع، وهو يدل على أن الأوضاع تسير للأسوأ، خاصة أن نتنياهو سيخضع لهذه الضغوط لتحصيل تفوق في الانتخابات المقبلة، فهو يعلم يقينا أنه كلما أوغل ضد الفلسطينيين فإن حظوظه سترتفع.
وجاء في الوثيقة تعهد خطير، كتب فيها: «أتعهد بأن أكون مخلصاً لأرض «إسرائيل»، وعدم التنازل عن أرض الأجداد والآباء، كما أتعهد وألتزم بالعمل على تحقيق خطة تسوية؛ لتوطين مليوني يهودي بالضفة الغربية»، وهو يعني أن الفتات المتبقي من الأرض الفلسطينية، يقع ضمن الخطة الصهيونية، التي تسعى لاستعادة ما يسمى زورا «أرض الآباء والأجداد»، وهذا الذي يفسر زيادة وتيرة الاستيطان ومضاعفة التهويد وقلع الوجود الفلسطيني. ومن هذا المنطلق فإن أي حديث «إسرائيلي» حول سلام أو حل الدولتين هو ضرب من العبث، ومجرد ذر الرماد في العيون، ومحاولة لكسب الوقت، فعلى الأرض ما يكذب زيفهم، وادعاءاتهم.
وبالتالي، فإن المناداة بما يسمى «تسوية عادلة»، ودعوة الاحتلال إلى الخضوع لها، تضييع للوقت، والجهود. فالسلام مع الاحتلال لا يمكن أن يتحقق، ومن ينادي به فهو يحلم، والأحلام هي أمنيات خيالية لا وجود لها على الواقع، فالسلام بالنسبة له، هو تحقيق نبوءة «إسرائيل» الكبرى» على الأرض العربية من النيل إلى الفرات، وما دون ذلك فهم يرون أنهم في خطر داهم.
«إسرائيل» لن تخضع لأي تسوية، ولن تعيد شبراً واحداً للفلسطينيين أو العرب، لذا فعلى أصحاب الحق التنبه إلى هذه النقطة، والإدراك أن التعويل عليهم كمن يعول على الارتواء بماءٍ أجاج، فالاحتلال قطعاً لن يسمح بأي تقدم يمنح الشعب بعضاً من حقوقه. لذا فإن مقاطعته ووقف التنسيق معه، مطلب مهم في هذا الظرف، والتحول لمواجهته بكل الطرق والوسائل هو الأنجع والأنجح، لأن هذا العدو لا يفهم لغة الحوار، بل يخضع دوماً تحت ضربات النضال الموجعة، سياسياً وعسكرياً وشعبياً وعلمياً.
تضحيات شعبنا الفلسطيني ممتدة إلى ما يزيدة عن قرن زمني، قدم خلاله الغالي والنفيس في سبيل مشروعه الوطني وحقوقه التي لا تسقط بالتقادم. بالمقابل، فإن حجم الإنجازات التي حققها حتى اللحظة، لا تتماهى وحجم التضحيات التي بذلها ولا يزال. وفي السؤال عن مصدر الخلل في هذه المعادلة، تجد أن الشعب مطلق العطاء دوماً في سبيل قضيته.
بالتالي فإن الخلل الرئيس يكمن في البنية القيادية لشعبنا في مراحل نضاله المختلفة. فمن جهة، تقف القيادة عاجزة عن تنظيم هذه النضالات وتأطيرها في كمّ تراكمي من الإنجازات، التي تعمل كقوة دفع للنضالات من جهة، وتأطيرها لخدمة شعار سياسي تكتيكي من جهة أخرى، يصب في مجرى الهدف الاستراتيجي، الذي انطلقت من أجله الثورة، بكل ألوان طيفها السياسي والفصائلي. بالطبع، فإن مطلق ثورة يصاحب مسيرتها أخطاء ومخطئون وانتهازيون، يركبون موجات النضالات الجماهيرية، تحقيقا لمصالحهم الشخصية.
غير أنّ من الصحيح القول أيضاً، إنّ الحالة الثورية المفترضة في المجرى النضالي، يتوجب أن تكون قادرة على إصلاح الأخطاء أولاً بأول، واجتثاثها من الجذور، لتصويب مسار الثورة من جهة، ولقص جذور الانتهازيين من ذوي المصالح الشخصية من جهة أخرى، هؤلاء من ضيقي الأفق، الذين هم ليسوا أكثر من كوابح لتقدّم مسيرة الثورة. المفهوم الآنف الذكر بتفصيلاته وتطبيقاته العملية يشكل مفترق طرق بين نجاح حركة التحرر الوطني التي تقودها الثورة، وبين التراجع التدريجي، وصولاً إلى الانحسار على طريق السقوط.
من الطبيعي والحالة هذه، وبدلاً من المزيد من التمسك بالهدف الاستراتيجي للثورة، ولأهداف ذاتية عنوانها: العجز وافتقاد القيادة للقدرة على تحقيق المزيد من الإنجازات في النضال الثوري، بل الأدهى من ذلك، افتقاد القدرة حتى على المحافظة على الثورة بحالتها الراهنة! (لأن من الطبيعي أن تمر الثورات في خطوط متعرجة ومنحنيات طبيعية، فلا ثورة تبقى في خط مستقيم صاعد!)، من الطبيعي وتجنباً للإحراج أمام الجماهير المغلوبة على أمرها، أن تعمل القيادة على تصغير، تقزيم، ومسخ الهدف الاستراتيجي وتحويله إلى أهداف أقلّ منه بكثير، بما يعنيه ذلك من مساومة ليست مشروعة وليست عادلة على الحقوق الأساسية لجماهير الشعب. هنا تقع القيادة في خطأ استراتيجي قاتل ومدمّر وينم عن الجهل بكل معانيه! ذلك أن الثورة هي أولاً وأخيراً تعبّر عن صراع الإرادات بين الثوريين والمستعمرين المحتلين للأرض من المغتصبين الأعداء. فبمجرد أن يقدم الثوري تنازلاً، سيفهم العدو أنه أصاب خصمه في مقتلْ، وسيلجأ والحالة هذه إلى المزيد من التشدد ومطالبة الخصم بالمزيد من التنازلات، وخصوصاً إن افتقد الأخير إلى السلاح الأهم في المواجهة الثورية للعدو، بتحويل مشروع احتلاله إلى مشروع خاسر بالمعنيين الديموغرافي البشري، والاقتصادي، وبالمعنى الأخلاقي أيضاً، من خلال الكفاح الشعبي المسلّح، الدائم والمستديم والمؤثر بقوة على العدو.
كثيرة هي الأسباب التي تؤدي إلى تقزيم الهدف، وتقزيم الثورة، وتراجعها عن هدفها الاستراتيجي، والمحافظة على الشكل الهزيل الأضعف من بقاياها، أول هذه العوامل: الانتهازية، كسياسة وممارسة واعية للاستفادة الأنانية من الظروف، مع الاهتمام الضئيل بالمبادئ أو العواقب التي ستعود على الآخرين. وأفعال الشخص الانتهازي هي أفعال نفعية تحركها بشكل أساسي دوافع المصلحة الشخصية.
الانتهازية هي المرض الأخطر الذي يسهم في أفول الظاهرة التي يتغلغل فيها، (وفي حالتنا، مرحلتنا الثورية الراهنة). بالتالي فهي العامل الأبرز المتوجب خشيته، أيّاً كانت الأشكال التي تبدو فيها الظاهرة، وأياً كان الشكل الذي تتجلى فيه. الانتهازية كذلك، تتناقض مع الجوانب الأخلاقية والقِيم والمبادئ، وترتبط بالنفاق والمهادنة والشعور غير الحقيقي في ذهنية الشخص الانتهازي.ومع انحسار القيم والمبادئ، بدأ اتساع هذه الظاهرة التي أصبح الإنسان يواجهها كثيراً في حياته. الانتهازية كانت منذ فجر التاريخ، وبروزها جاء مع تقسيم العمل. نطبق مصطلح الانتهازية على البشر والكائنات الحية والمؤسسات والأساليب والسلوكيات والتوجهات. تمثل الانتهازية أو "السلوك الانتهازي" مفهوما مهما في العدد من المجالات بما فيها الثورة، كما الأخلاقيات وعلم النفس، وعلم الاجتماع والسياسة بالطبع.
ترتبط الانتهازية بتعبير آخر هو الوصولية، وتدل على سلوك شخصية الإنسان الذي يكرس كل نشاطه الاجتماعي لهدف الترقي في المنصب أو الوظيفة "حب الرفعة" والذي لا يكون على استعداد لتنفيذ واجباته. وهي شكل من الأنانية في الميدان المعني. والوصوليون هم الذين يبيحون لأنفسهم استخدام جميع الوسائل لاعتلاء أعلى المراكز وإن كان على حساب الآخرين.
الانتهازيون هم أصحاب الأقنعة من أولئك الذين تتعدد وجوههم، يتربصون بالبعض من الثوريين الأنقياء المخلصين الصريحين والواضحين من الذين لا يخشون في الحق لومة لائم! يتربصون بهم كفريسة لهم وينقضون عليها مرّة تلو أخرى في أسلوب مبتذل ونذل ووقح! والأخطر أن المسؤولين عنهم لا يتنبهون استهدافاتهم للشخص/ الأشخاص المعني/ المعنيين، ولا يوقفونهم عند حدّهم. الانتهازيون يمتازون بالتملق والتودد والإفراط في المديح والإطراء والمجاملة حتى تظن الانتهازي بأنه الشمعة التي تحترق من أجل إسعاد الآخرين.
علي قباجة