دولي

تغير نوعي في مقاربة الاحتلال إزاء القدس..

القلم الفلسطيني

لم تتوان دولة الاحتلال الإسرائيلي لحظة واحدة منذ احتلالها الشطر الشرقي من مدينة القدس عام 1967 عن تهويد المدينة المقدسة، في إطار المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني؛ عبر التوسع الاستيطاني، والاستيلاء على الأرض، وحشر الفلسطينيين الباقين في بقع جغرافية محدودة ومتشظية، تقطع المستوطنات أوصالها، وإخضاعهم لبيروقراطية مقيتة تنغص حياتهم اليومية، وقمع أي حراك سياسي وطني، وتغيير أسماء الشوارع والأحياء والأماكن العامة، والامتناع عن توفير المرافق العامة والبنى التحتية الجيدة والمرافق الخدماتية والترفيهية. وكذلك شيطنة صورة المقدسي إعلامياً، ونشر منهاج التدريس الإسرائيلي على حساب الفلسطيني، والتضييق على حرية الحركة، وسحب الهويات، وسياسة الإفقار، وخنق الاقتصاد الفلسطيني وإلحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي، والقتل، والاعتقالات، وهدم البيوت، والامتناع الممنهج عن منح رخص بناء، والتضييق على المقدسيين على كل الصعد لتهجير أكبر عدد ممكن منهم، وتعسير مهمة الخروج والدخول من وإلى القدس من باقي مدن الضفة الغربية، من خلال جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية، وحرمان الفلسطينيين من التواصل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وانعدام الأمان المتعمّد، واعتداءات المستوطنين، ومصادرة الممتلكات والأراضي، وفرض ضرائب باهظة على السكان، ومحالات تقسيم الأقصى، والاستيلاء على المباني في البلدة القديمة وسلواد وتهجير سكانهم، وغيرها من السياسات الوحشية. 

"جرّدت السياسات الإسرائيلية الاستعمارية خلال عشرات السنوات الفلسطينيين من 87% من أراضيهم" منذ لحظاتها الأولى، وسّعت دولة الاحتلال حدود بلدية القدس إلى حوالي 72 كيلومتراً مربعاً، بعد أن كانت مساحة المدينة، بعد التوسعة الأردنية المسبقة، لا تتعدى 6.5 كيلومترات مربعة، للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أراضي الضفة الغربية، وكان قد تقرّر نوع الأراضي التي اقتطعتها دولة الاحتلال وضمتها لحدود بلدية القدس، بناءً على توصيات لجنة عسكرية شُكّلت خصيصًا لهذه الغاية، وطبّق القانون الإسرائيلي عليها. وفي تلك الأثناء، شُكّلت لجنة أخرى هدفت إلى "توطين اليهود" في القدس الشرقية، تجسيدًا لأهداف الاستيطان الإسرائيلية، ولتعزيز وجودها الكولونيالي في القدس المحتلة، ولعزل المدينة عن باقي مناطق الضفة الغربية من خلال أحزمة المستوطنات. 

وفي تلك الأثناء، برزت نوايا التهجير المبيتة للمقدسيين لأول مرة بشكلٍ رسميٍ عام 1973، عندما صادقت "اللجنة الإسرائيلية لشؤون القدس" على تحديد نسبة العرب إلى 22% من مجموع سكان مدينة القدس. وهي النسبة التي قلصها صانعو القرار في دولة الاحتلال مرة أخرى عام 1993، حين بدأ التخطيط للقدس الكبرى (المنطقة بين مشارف بيت لحم جنوبًا، ورام الله شمالًا، ومعاليه أدوميم شرقًا، وهي تشكل حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية، وتضم مستوطنات مثل غوش عتسيون، ومعاليه أدوميم، وغفعات زئيف إلخ)، بقيادة وزير الإسكان آنذاك، بنيامين بن إليعازر. وكان هدف الخطة إيجاد تواصل بين المستوطنين، لا سيّما التجمعات الاستيطانية خارج حدود القدس، وضمها ومنع التقارب مع العرب، وجعل الفلسطينيين أقليةً عربيةً، بنسبة لا تتجاوز 12% من مجمل قاطني مدينة القدس. (كما ذكر عزمي بشارة في مقالة في "الجزيرة نت"، 17/12/2009). 

وبقيت هذه الأضلاع الثلاثة: مصادرة الأرض، الاستيطان، حشر من يتبقى من الفلسطينيين في أقل بقعة جغرافية ممكنة، من دون توفير أدنى مقوّمات المعيشة داخل التجمعات الفلسطينية في القدس المحتلة، الإطار الناظم لسياسات دولة الاحتلال وبلديته إزاء الفلسطينيين في القدس المحتلة طوال العقود الماضية. 

وفي المجمل، جرّدت السياسات الإسرائيلية الاستعمارية خلال عشرات السنوات الفلسطينيين من 87% من أراضيهم، وتبقى لهم حوالي 13% فقط من الأراضي التي امتلكوها سابقًا، من خلال قانون أملاك الغائبين، والمصادرة للمصلحة العامة أو لأغراض عسكرية، وغيرها من الأساليب الملتوية التي اتبعتها سلطات الاحتلال، على ما يذكر الخبير في شؤون الاستيطان، خليل تكفجي. كما بات يُحيط بالقدس طوقان من المستوطنات، داخلي وخارجي، الداخلي ضمن حدود البلدية، ويشمل عددًا من المستوطنات، أهمها غيلو والتلة الفرنسية وبسغات زئيف وراموت، بالإضافة إلى حرب الاستيلاء على العقارات الفلسطينية في البلدة القديمة وسلوان. أما الخارجي فهو خارج حدود البلدية، ويشمل هار أدار، وأدام، وعلمون، ومعاليه أدوميم وكتلة غوش عتسيون وإفرات وغفعات زئيف، (خالد عايد، "القدس الكبرى في إسار الأمر الواقع الصهيوني". مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 4، عدد 15، عام 1993)، وهي المستوطنات التي تسعى سلطات الاحتلال إلى ضمها للقدس، تنفيذًا لما يسمى مشروع "القدس الكبرى". 

وخلافًا للسياسات التهويدية والإحلالية تجاه الفلسطينيين، تثبت الوقائع أن دولة الاحتلال صبّت جل اهتمامها على القدس الغربية في مختلف الصعد، من بنية تحتية وتعليم وترفيه وخدمات، في حين أهملت سلطات الاحتلال القدس الشرقية، سيّما التجمعات الفلسطينية فيها، لصالح المستوطنات الإسرائيلية. وتفيد التقديرات بأن حوالي 5% فقط من ميزانية بلدية الاحتلال التي تحصّل بلدية الاحتلال حوالى 37% منها من الضرائب التي تفرضها على الفلسطينيين في القدس المحتلة، تصرف على تحسين حياة الفلسطينيين المقدسيين. وحتى بعد إقرار قانون أساس "القدس الموحدة" عاصمة دولة الاحتلال في يوليو/ تموز 1980، وتأكيد اليمين التنقيحي على "وحدة" القدس، وازدياد وتيرة الاستيطان والمصادرة، إلا أن سلطات الاحتلال أبقت مقاربتها إزاء الفلسطينيين في القدس كما هي. 

وكان لبناء جدار الضم والفصل العنصري خلال سني انتفاضة الأقصى دلالات عديدة، فهو في حين فصل بين التجمعات الفلسطينية في القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية من ناحية، وعزل أحياء مقدسية تقع ضمن حدود بلدية الاحتلال خارج جدار الأبارتهايد، مثل مخيم شعفاط وعناتا وكفر عقب من ناحية أخرى، إلّا أن الجدار، من ناحية أخرى، وإن عبّر عن رغبةٍ بإبقاء مدينة القدس تحت الهيمنة الإسرائيلية، فقد عزّز من إمكانية إخراج أحياء القدس ما وراء الجدار من حدود البلدية، والتخلي عنها نهائيًا. وعمليًا، همشّت أحياء القدس خلف الجدار بشكل أكبر، عندما عزلت خلف جدار الفصل العنصري، ما أشار إلى بداية العد التنازلي لإخراجها من حدود البلدية، لا سيّما عند الوصول (المأمول!) إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية. 

ويستدل من هذا المسار الاستعماري أن أحياءً عربية بأكملها قد وضعت في المخيال السياسي الإسرائيلي موضعًا متحرّكًا، باعتبارها رصيدا للمساومة السياسية، بحيث يمكن الاستغناء عنها في أي عملية سلام مستقبلية. ويبدو أن صناع القرار كانوا مدركين تمامًا أن أساليب التضييق لن تهجّر تجمعاتٍ فلسطينيةً بأكملها، وإنما عليهم إعادتها للفلسطينيين، وإخراجها خارج حدود بلدية الاحتلال، من أجل تقليص نسبة الفلسطينيين في القدس المحتلة، والانتهاء من "الخطر الديمغرافي" المزعوم.

….يتبع

أحمد سعيد قاضي
 

من نفس القسم دولي