دولي

عندما غابت شمس العثمانيين عن فلسطين

القلم الفلسطيني

لا أدري أين كان يسرح خيال جدي “سليمان” وهو عائد إلى فلسطين، بعد أن أضناه الجوع والتعب، وأعيته سنوات القتال في الجيش العثماني في اليمن، أثناء الحرب العالمية الأولى. لقد قاتل بشرف عن الدولة التي يؤمن أنها دولته، غير أن الخواطر والمخاطر والآمال والكوابيس كانت تتقاذف نفسه؛ فها قد زال حكم الدولة الإسلامية التي حكمت بلده أربعة قرون متواصلة، وها هي بلده الآن تحت الاحتلال البريطاني والآمال تتصاعد بين فئات من الناس بقيام دولة عربية تحت زعامة شريف من الدوحة النبوية، والمخاوف تتعاظم بين فئات أخرى بنكث البريطانيين لعهودهم، وتطبيق اتفاقات سايكس بيكو، وتسليم فلسطين للصهاينة اليهود. كان هذا حاله وحال عشرات الآلاف ممن قاتلوا مع العثمانيين، وحال مئات الآلاف من أبناء فلسطين الذين أربكهم المشهد فاحتاروا أين تخطو أقدامهم خطواتها التالية؟!!

في الشهر الماضي، أقيم في فرنسا احتفال عالمي بمرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى (11/11/1918). وفي الوقت نفسه، ترجع بنا الذاكرة إلى أن البريطانيين كانوا قد أنهوا في النصف الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر 1918 احتلال شمال فلسطين، واستكملوا في الشهر التالي احتلال سوريا.

مئة عام مرت على الخروج العثماني من بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية. ولنا في هذه المناسبة وقفات مختارة متعلقة بفلسطين:

الوقفة الأولى: أن أهل فلسطين (ومعهم بشكل عام أبناء البلاد العربية التي حكمها العثمانيون) كانوا في العهد العثماني، كما يقول مؤرخ فلسطين عارف العارف “مخلصين في شعورهم نحو الدولة والسلطان؛ وكانوا على أتم الاستعداد للحرب والكفاح دون دين الإسلام وسلطان المسلمين”. وكانوا، كما يذكر زعيم فلسطين ومفتيها الحاج أمين الحسيني، يشاطرون الأتراك جميع مناصب الدولة المدنية والعسكرية، ويتمتعون بجميع الحقوق التي يتمتع بها الأتراك. وعلى سبيل المثال، فإن موسى كاظم الحسيني الذي أصبح زعيم فلسطين بعد انتهاء الحكم العثماني (في الفترة 1920-1934) كان متصرّف (حاكم) منطقة عسير 1892، ونجد 1896، والأحساء 1900 (والمناطق الثلاث من مناطق السعودية الحالية). كما عمل متصرفاً بعد ذلك وحتى 1912 في بتليس وأرجيدان في الأناضول، ثم في المنتفق في العراق، ثم في حوران في سوريا.

الوقفة الثانية: أن هذا الولاء استمر بشكل لا لبس فيه إلى أن حدث انقلاب حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد سنة 1908. فقد صُدم الفلسطينيون وباقي العرب والمسلمين باتخاذ قيادة الدولة منحى قومياً تركياً، وبتبني سياسة “التتريك”، والتزام سياسة نفَّرت العرب والقوميات الأخرى. وزاد من مخاوف أهل فلسطين تغلغل اليهود الصهاينة في الاتحاد والترقي، ومظاهرُ البهجة والفرح التي سادت وسط اليهود الصهاينة في فلسطين إثر نجاح انقلاب الاتحاد والترقي، وتزايد نشاطهم لتحقيق مشروعهم في فلسطين. وعندما تشكلت الحكومة الجديدة للاتحاد والترقي في حزيران/ يونيو 1913، شارك فيها عربي واحد هو سليمان البستاني، مع أن العرب كانوا نصف سكان الدولة العثمانية في ذلك الوقت.

وقام الاتحاديون بتخفيف القيود على الهجرة اليهودية لفلسطين، كما خففوا القيود على تملّك اليهود للأراضي فيها. غير أن الاتحاديين اضطروا لتغيير موقفهم من الحركة الصهيونية في أثناء الحرب الأولى، عندما اتخذت موقفاً معادياً للدولة العثمانية.

وهكذا، فإن أبناء فلسطين شعروا بالصدمة وانتابتهم المخاوف، وهم يرون الدولة المعنية برعايتهم تهيمن عليها قيادة لا تكترث بهم، أو “تتآمر” عليهم، فتعارضت في نفوسهم مشاعر الولاء والحب للدولة، مقابل مشاعر القلق والغضب والرغبة في التغيير تجاه قيادتها.

الوقفة الثالثة: أنه عندما أعلنت الدولة العثمانية دخولها في الحرب العالمية، جمَّد زعماء الجمعيات والحركات العربية الإصلاحية نشاطاتهم، وقرروا الالتفاف حول الدولة العثمانية في حربها ضدَّ أعدائها، على أمل أن يُستجاب لمطالبهم الإصلاحية. وأقيمت في فلسطين استقبالات حافلة للجيش العثماني القادم من الشام في كانون الأول/ ديسمبر 1914، في طريقه لمهاجمة قناة السويس، وعُلِّقت الزينات وأقواس النصر، وخرج أهل القدس بأسرهم للترحيب به. وعندما انتصر العثمانيون في معركة جناق قلعة، ذهب وفد من 30 عالماً من علماء بلاد الشام وأدبائها، بينهم ثمانية من علماء فلسطين، إلى إسطنبول في 28 أيلول/ سبتمبر 1915، للتهنئة بالانتصار على الحلفاء. وحتى 1916، كان ما يزال الولاء للعثمانيين قوياً والآمال كبيرة.

الوقفة الرابعة: تزايد الشعور لدى الزعامات العربية أن القيادات الممسكة بزمام الدولة العثمانية، لم تلتزم بوعودها الإصلاحية، بينما أدت ممارسات جمال باشا “السفاح” في بلاد الشام تجاه قيادات ورموز إصلاحية عربية؛ إلى إيجاد أجواء جديدة من النفور والإحباط والعداء. وفي الوقت نفسه، تواصل البريطانيون مع الشريف حسين في مكة ليشجعوه على الثورة على العثمانيين، وتواصل هو بدوره مع زعماء الجمعيات العربية في الشام ليشتركوا معه في الثورة. وبغض النظر عن التفصيلات التي يعرفها الكثيرون، فإن بريطانيا هدفت إلى إضعاف الشرعية الدينية العثمانية، وإلغاء تأثير إعلان الجهاد الذي أعلنه السلطان العثماني، وإلى تعميق الشرخ بين العرب والأتراك، وإضعاف الروح المعنوية وإرادة القتال لدى العثمانيين، في الوقت الذي كانت بريطانيا ترتب فيه سراً اتفاقيات سايكس بيكو مع الفرنسيين والروس، وتتفاوض مع الصهاينة لإصدار وعد بلفور. أما الشريف حسين، فكان يحلم بإنشاء دولة “خلافة” عربية في المشرق العربي.

الوقفة الخامسة: بعد أن أعلن الشريف حسين ثورته في حزيران/ يونيو 1916، أصبح المشهد مربكاً جداً للإنسان العادي. فقد استخدمت الثورة مسوغات إسلامية دينية، بالإضافة إلى الخلفيات العروبية لتبرير انطلاقتها. ففي إحدى المنشورات الموجهة من الشريف حسين، والتي ألقتها الطائرات البريطانية مستهدفة الجنود العرب في الجيش العثماني، يقول الشريف: “هلموا للانضمام إلينا نحن الذين نجاهد لأجل الدين وحرية العرب، حتى تصبح المملكة العربية كما كانت في عهد أسلافكم.

وفي مثل هذه الأجواء، أخذت تتنازع الناس آمال باستعادة أمجاد “الخلافة” تحت زعامة رجل من بني هاشم، بالتحالف مع البريطانيين (ولا غرابة فقد تحالف الأتراك مع الألمان)، وبعد أن انقض الاتحاديون على الخلافة العثمانية فأفرغوها من محتواها ومصداقيتها. كما كانت تتنازع الناس – في المقابل – الرغبة في البقاء مع الأتراك تحت الدولة العثمانية على أمل الإصلاح في إطارها، ولعدم ثقتهم بقدرات وإمكانات الثورة، ولأن البريطانيين لا يؤمن جانبهم، ولما أخذ يظهر من “إشاعات” حول تقسيم المنطقة وفق سايكس بيكو، وتسليم فلسطين لليهود.

محسن صالح

 

من نفس القسم دولي