دولي
نظام محمود عباس السياسي
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 05 ديسمبر 2018
تلعب المصادفة دورا مهما في التاريخ، كما يقول المؤرخون، وهذه المصادفة قد تغير مجرى التاريخ، أو تضع شخصا ما في مكانٍ ليس مكانه، وتعطيه صلاحيات أكبر مما يتصوّر. هذه حالنا مع قادة المصادفة في العالم العربي الذين تجدهم تقريبا في كل بلد عربي. ليس الفلسطينيون استثناء من هذه القاعدة، فهذه حالهم مع الرئيس محمود عباس الذي جاءت به المصادفة خلفا للرئيس ياسر عرفات، بعد غياب القيادة التاريخية الفلسطينية، مثل أبو يوسف النجار وأبو جهاد وأبو إياد وخالد الحسن، بفعل الاغتيال الإسرائيلي أو الموت الطبيعي.. لا أحد يستطيع أن ينكر أن الرجل من قادة حركة فتح التاريخيين، ولكن طوال التجربة الفلسطينية، لم يكن متوقعا أن يخلف عرفات بكل المناصب التي شغلها الرجل في حياته، فقد كان أبو مازن، طوال الوقت، "رجل الظل" الذي يعمل في الخفاء على سياساتٍ فلسطينيةٍ، ليست لها صفة الشعبية بين الفلسطينيين، كالعلاقات مع الإسرائيليين في فترات مبكرة. كما اشتهر بالاستنكاف عن العمل السياسي، فهو صاحب سياسة "الحرد"، فقد قضى سنوات كثيرة في العمل السياسي الفلسطيني "حردان" لسبب ما، ومعتكف العمل. ويمكن القول إنه قضى وقتا في "الحرد" أطول من الوقت الذي قضاه في العمل، قبل وصوله إلى منصب الرئاسة، طبعا، ففي هذا المنصب لم يحرد ولا مرة خلال أربعة عشر عاما.
لم يقتنع أبو مازن يوما بالتجربة الفلسطينية النضالية، وكان من أكبر منتقديها داخل "فتح"، خصوصا في جانبها العسكري، معتقدا أن هذه التجربة تسيء إلى الفلسطينيين. ولم يرد الاعتراف بأن التجربة، بإيجابياتها وسلبياتها، كانت ممرا إجباريا فُرض على الفلسطينيين، حتى لا تستطيع إسرائيل إلغاءهم وإخفاءهم نهائيا من الخريطة السياسية في المنطقة، فلم يرَ أي دور للكفاح المسلح، بمعنى أنه لم يملك نقدا من أجل تقويم هذا العمل الذي عانى من عيوب كثيرة، لكنه لم يؤيد العمل المسلح من حيث المبدأ.
على الرغم من إشكالية رجل مثل أبو مازن، إلا أنه، في زمن صعود التجربة الفلسطينية، كان لونا سياسيا ضمن طيف سياسي واسع، عاشته هذه التجربة، بكل تعدّديتها وتناقضاتها وارتهاناتها، وكان إغناء لتجربة التنوع داخل حركة فتح التي كانت تعبيرا عن حال الشعب الفلسطيني. كان واحدا من قادة "فتح" التاريخيين، ولكنه لم يكن قائدها، ولا رئيس المنظمة ولا رئيس السلطة، ولم يكن زعيما لتيار أو لوجهة نظر داخل الحركة. لم يكن يوما طامحا في منصب الرجل الأول فلسطينيا، ثم وجد نفسه يشغل كل المناصب التي شغلها ياسر عرفات الذي كان يبالغ في هذه المناصب وفي صلاحياته أصلا. إنه مكان مختلف عن مكان قائدٍ من مجموعة قادة، أو حتى مختلف عن موقع الرجل الثاني. ولأن الرجل احتل المناصب في زمن حرج، فقد أثّر بشكل كبير على مكانة القضية الفلسطينية في السنوات التي شغل فيها كل المواقع المركزية على الساحة الفلسطينية، حتى ظهرت السياسة في الساحة الفلسطينية بوصفها "عرض الرجل الواحد" (one man show)، عرض الرئيس عباس، وهو ما لم يفعله ياسر عرفات، مع كل الوزن التاريخي الذي شغله في التجربة الفلسطينية.
كما أن للمصادفة دورا في التاريخ، هناك دور للفرد في التاريخ. وحتى يملك الفرد هذا الدور، لا يكفي أن تحمله المصادفة إلى موقع سياسي أكبر منه، بل عليه أن يملك الكاريزما والإرادة الصلبة، ليكتسب هذا الدور. مع حالة الرئيس أبو مازن، كان الدور كارثيا، فهو لم يعجز عن سد الفراغ الذي تركه عرفات فحسب، بل هو بدّد كل الإرث التاريخي للراحل، ولكل الحركة الوطنية الفلسطينية أيضا. تجمعت بيده سلطاتٌ مطلقة بفعل المصادفة، أو بفعل فاعل، لم يعرف كيف يتعامل معها لخدمة القضية الوطنية، بل عمل على توظيفها لجمع السلطات في يده، وتعطيل أي فعل سياسي خارج مؤسسة الرئاسة الفلسطينية التي أبدت جبن المبادرة في كل مفصل سياسي فلسطيني، ما أظهر بوضوح أن هذه الرئاسة، وهذا النمط من إدارة السياسة بهذه الطريقة الاستئثارية، هما تعبيد للطريق أمام كارثة وطنية فلسطينية حتمية.
حاول أبو مازن عدة مرات، وفي عدة حوارات، الإيحاء بأنه زاهد بالسلطة وبالمناصب، ولكن كل الممارسات تفيد بأنه يمارس السلطة كطاغية، على الرغم من أنه لا يملك أدوات الطغاة القمعية، فهو لا يحتمل أي ملاحظةٍ نقدية، وهو يعتقد، بفعل ما أسفرت عنه الساحة الفلسطينية من مخاضاتٍ سلبية، أنه "الرقم الصعب" الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وأنه يمكن أن يعاقب أي شخص يمسّه بنقد، ويكافئ أي شخص يرضى عنه، في وقتٍ يتعامل مع كل الإطارات الفلسطينية الرسمية التابعة للسلطة والمنظمة وحركة فتح بخفةٍ واستهتارٍ واحتقار، في الوقت الذي يدير سياسة انسحابية من كل القضايا المطروحة على الأجندة الفلسطينية.
نعم، تجمعت بيد الرئيس أبو مازن صلاحياتٌ لم تتوفر للراحل ياسر عرفات، ورثها وأخرى منحت له بفعل الانقسام الفلسطيني، وبات هو مصدر كل الشرعيات، ويتصرّف على هذا الأساس، ويتعامل مع عديد من قضايا شعبه باحتقار. لا أحد يهدّد هذه الشرعية، ولا مؤسّسة تتحدّاها. بات ملكا متوّجا، في أوضاع فلسطينية تتردّى يوما بعد يوم. ليس من الصحيح اليوم أن هناك نظاما سياسيا فلسطينيا. هناك اليوم نظام أبو مازن وحده، والكل يجب أن يعمل على خدمته. على الفلسطينيين أن يتخلّصوا من هذا النظام في أسرع وقت، لأنه يدفع إلى الهاوية ويبدّد القضية. ليس الفلسطينيون شعب الرجل الواحد، إنه شعب له قضية وحقوق عادلة يجب إعادة الاعتبار لها من خلال إعادة الاعتبار لمؤسسات هذا الشعب وأطره التمثيلية.
لذلك، بات الخلاص من نظام أبو مازن السياسي ضرورةً تاريخيةً للفلسطينيين ولفلسطين، اليوم قبل الغد.
سمير الزبن