دولي

هل تلاشى الحلم الفلسطيني؟

القلم الفلسطيني

قبل ثلاثين عامًا وقف ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بكامل هيئته العسكرية وبكل ما يتمتع به من كاريزما أمام المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في العاصمة الجزائر، وأعلن أنه: "استنادًا إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعًا عن حرية وطنهم وانطلاقًا من قرارات القمم العربية ومن قوة الشرعية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947، وممارسة من الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه؛ فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف".

لم يستطع حينها أي من الحضور أن يمسك نفسه عن التصفيق بحماسة وحرارة إجلالًا وتعظيمًا لتلك اللحظة المهيبة، ولم يقدر أي من الفلسطينيين على منع عينيه عن سكب دمعاتهما وهو يتلقف من فم قائد الثورة الفلسطينية بيان إعلان استقلال دولة فلسطين الذي تشتاق له نفوسهم وتتوق قلوبهم شوقًا إليها وحنينًا، وبدا واضحًا وجليًا مدى تعلق الإنسان الفلسطيني بأرضه وهيامه بالعودة إليها وشغفه بإقامة دولته عليها، ولربما لم تكن منظمة التحرير بفصائلها وقيادتها تتوقع أن يحدث إعلان الاستقلال هذا التأثير الكبير في نفوس الفلسطينيين من الأمل بقرب إقامة دولتهم، والإنسان الفلسطيني المغلوب على أمره يهتف خلف كل بندقية موجهة صوب عدوه ويصدح بتأييد أي مقام ينال من الاحتلال الإسرائيلي.

جاء إعلان الدولة منسجمًا مع أحداث ويوميات الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة في الداخل المحتل، والتي جعلت من قيام الدولة أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى، فانطلاقتها العفوية والمفاجئة ونتائجها المجدية والمؤثرة أحيت في قلوب الفلسطينيين الأمل في انتزاع حقوقهم من بين أنياب عدوهم، بعد أن كادت تسقط في اليأس جراء ما أصاب ثورتهم بعد حرب لبنان الأولى عام 1982، لكن الإعلان مع ذلك كان معنويًا وتفصله مسافة كبيرة عن الواقع، وإن كان يحمل في نصه العديد من المعاني والدلالات القانونية والحقوقية والسياسية والاجتماعية المهمة للفلسطينيين، إلا أنه مرتكز بشكل أساسي على قوة الحق الفلسطيني، ومحكوم لضمير المجتمع الدولي، وقد غاب عن كثير من أولئك العطشى لوطنهم وحقوقهم، أن هذا الإعلان يحمل في جنباته اعترافًا ضمنيًا بدولة إسرائيل ويمنح وجودها شرعية دولية، فهو مبني على قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأُخرى فلسطينية ويقبل بالتعاطي إيجابيًا مع قراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين ينتقصا من الحقوق الفلسطينية ويمنحا إسرائيل ما ليس لها حق فيه، وقد رفضهما الفلسطينيون بدمائهم وأشلائهم ورضوا بالمعاناة والألم لعشرات السنوات على أن يقبلوا بهما، ولم يدر في خلد أحد أن هذا الإعلان سيجرّ منظمة التحرير الفلسطينية إلى متاهات تفاوض خاسرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تتخلّى لأجلها المنظمة عن الكفاح المسلح لصالح التسوية السلمية وتغرق في التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي.

الكثير من الصعوبات والعراقيل واجهها حلم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة منذ إعلانه، كان أولها اتفاق أوسلو الذي انعطف بمسار القضية الفلسطينية إلى هاوية الابتزاز الإسرائيلي وملهاة الوعود الكاذبة، واعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل صراحة، على أمل أن تفضي مفاوضات الحل النهائي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وكذلك انهيار الاتحاد السوفييتي وخسارة دعمه للقضية الفلسطينية وبدء عصر الهيمنة الأميركية على العالم، وما ترتب على حرب الخليج من آثار سلبية على المواقف والدعم العربي للقضية الفلسطينية، ساعد إسرائيل على التملص من الاتفاقات والتحايل على القوانين الدولة التي تخص الحقوق الفلسطينية، وتعنتت أكثر خلف لاءاتها المتعلقة بالشأن الفلسطيني "لا انسحاب من القدس، لا لإزالة المستوطنات، لا عودة للاجئين، لا للدولة الفلسطينية المستقلة".

سارعت إسرائيل إلى خلق وقائع على الأرض تجهض من خلالها فرص ميلاد الدولة الفلسطينية وتُجهز على أي محاولة لتجسيدها على أرض الواقع، فقد استمرت في احتلال الأراضي الفلسطينية وزادت من وتيرة الاستيطان فيها والتهمت مساحات واسعة منها عبر شق الطرق الالتفافية الواصلة بين البؤر الاستيطانية، وقضت بالجدار العازل على إمكانية التواصل الجغرافي بين مناطق الدولة الفلسطينية حيث حولتها إلى كنتونات منفصلة عن بعضها البعض.

لم تسلم العاصمة الفلسطينية من الإجراءات الإسرائيلية، إذ باشرت في ضم القدس الشرقية تحت السيادة الإسرائيلية وأنشأت كثيراً من المؤسسات الدينية اليهودية والكنس في المدينة وفي ساحات المسجد الأقصى، هادفة بذلك إلى طمس المعالم الإسلامية وإضفاء طابع يهودي عليها، وانتهجت سياسة التضييق على سكان القدس لتدفعهم إلى مغادرتها، وتكللت الجهود الإسرائيلية الرامية إلى تهويد القدس بإعلان الرئيس الأميركي القدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقله السفارة الأميركية إليها، ليحبط بذلك أي تحرك سياسي فلسطيني في المحافل الدولية باتجاه إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.

بعد ثلاثة عقود على إعلان الاستقلال لم يحصل الشعب الفلسطيني على دولة، ولم يملك السيادة على الأرض التي يعيش عليها وليس له سلطة على اقتصاده ولا موارد، وما زال الفلسطينيون يرزحون تحت نير الاحتلال الإسرائيلي ويعانون في الإقامة والترحال والتنقل فهم بحاجة إلى تصريح أمني للعبور عبر الحواجز ونقاط التفتيش والمعابر وموافقة من السلطات الإسرائيلية على جل ما يتعلّق بشؤون حياتهم، فلم يترك الاحتلال الإسرائيلي طريقة في التضييق على الفلسطينيين والتحكم بهم وقمعهم إلا ومارسها عليهم، ليزرع اليأس في قلوبهم ويحبط آمالهم ويدفعهم إلى نسيان أمر الاستقلال وتجاهل التفكير فيه أو التعلق به، ذلك في ظل عدم اكتراث المجتمع الدولي بشكل عام والدول العربية بشكل خاص بالتجاوزات الإسرائيلية وعدم جديتهم في إنصاف الفلسطينيين وإحقاق حقوقهم التي نصّت عليها القوانين الدولية وشرعها المجتمع الدولي.

محمد عبد القادر

 

من نفس القسم دولي