دولي
الدولة العلمانية في فلسطين
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 نوفمبر 2018
نجحت مقالة الكاتب صقر أبو فخر "الدولة ثنائية القومية في فلسطين.. واقع الحال والمحال"، في "العربي الجديد" (22/10/2018)، في تقديم لمحة تاريخية عن تطور النقاش بخصوص موضوعها، ولكنها تضمنت أيضاً جملة من الخيارات السياسية للكاتب، وأهمها رفض فكرة "الدولة العلمانية في فلسطين". ما قد يعودُ، في جزء منه، إلى تعلق الكاتب بأوهام "حل الدولتين"، وعدم قدرته على الانفكاك من إسارها، وقد يعودُ إلى تقييم خاطئ لمضمون هذا الحل، وما يتضمنه من تطويرٍ لمعنى "السياسة" والممارسة السياسية، بما هما تقديم حزمة من الاقتراحات السياسية المتفوقة أخلاقياً على الاقتراحات الأخرى من معسكر العدو، ومن معسكر "الصديق" أيضا. وهذا التفوق الأخلاقي المستقبلي هو ركيزتها الأكثر مردودية سياسياً، وإن كانت تعاني من الضعف وخفوت الصوت في اللحظة الراهنة المحكومة بتفوق القوى المعادية لهذا الطرح، ولسيطرة الأخيرة على المشهد السياسي العام. الاقتراح العلماني لحل الصراع ولِصيغ الدولة الفلسطينية في المستقبل بعد إحقاق الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، يتلخص في الجوهر في العمل على ابتكار "عالم تشاركي" منفتح على آفاقٍ مستقبلية للتطور والتطوير لمبادئ العيش المشترك وتصوراته.
هنا، "الخطاب السياسي العلماني"، والذي يتكفل الشعار السياسي بتلخيصه، والتعبير عن جوهره، هو مجموع تلك "الكلمات" التي تؤدي معنىً في رسمها لِملامح عالمٍ ممكن التحقق (جاك رانسير Jacques Rancière) ومادةً للتماهي المشترك، وذلك من خلال تحول "القول" إلى "فعل". أن "تقول" هو رديف أن "تفعل" (جون أوستين John Austin). وهذه الأقوال وهذه الكلمات ليست مجرد "مزايدات الكلام" (صقر أبو فخر)، وإنما هي اقتراحات سياسية لرسم خطة للمستقبل المنظور، وهي قابلةٌ للتحقق على أرض الواقع الفعلي، في خضم سيرورة نضالية قد تطول أو قد تقصر.
دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية"
يحمل شعار الدولة العلمانية في فلسطين التاريخية اقتراحا سياسيا لمستقبل العيش المشترك فيفلسطين التاريخية، ضمن تصور أخلاقي وإنساني، بعيداً عن التعصّب والشوفينية، وهو اقتراح فلسطيني بالدرجة الأولى، وإن التفّت حوله أصواتٌ يهودية تقدمية ومتخلصة من خزعبلات الطرح الصهيوني العنصري وأساطيره. إنه شعارٌ كفيلٌ بحمل شحنةٍ دلاليةٍ قوية، وتحديداً للمُتلقي اليهودي الرازح تحت وطأة خطاب المؤسسة الصهيونية، فتفوّقه الأخلاقي، وإن لم يكسِبه على الفور بعضاً من الشرعية في نظر هؤلاء، يبقى موضوعاً للقلق، وذا حضورٍ لا يمكن الالتفاف من حوله، أو تغييبه بالكامل. هذا الاقتراح السياسي هو بمثابة دعوة مفتوحة لبناء مستقبل مشترك مُمكِن، ما يجعل منه تجسيداً لممارسةٍ سياسية جديدة، وهذا قد يُكسبه قوة الفعل بالواقع السياسي لتغييره، وذلك بالطبع ضمن ووفق حالات الصراع وموازين القوى القائمة ذاتياً وإقليمياً ودولياً. وتجسيد هذا الشعار لرؤية سياسية تقدّمية وإنسانية رفيعة من أشكال التدخل بموازين القوى المُختلة لصالح العدو الصهيوني، للعمل على تعديلها من خلال ممارسة جميع أشكال النضال، ومنها هذا العمل الحثيث على بث هذه الرؤى لحلٍ ممكن لبناء "فلسطين جديدة"، ولضمان عودة اللاجئين، وتفكيك دولة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني والإحلالي.
وهكذا، فإن النضال من أجل فلسطين دولة علمانية واحدة هو تعبير عن رفض الرضوخ لإملاءات موازين القوى الراهنة، والتي تُقفل آفاق المستقبل، وهو أيضاً العمل على اختطاط استراتيجية ناجعة تضعُ هذا الشعار واحدا من ركائزها المركزية، وذلك لمرافقة جميع أشكال المقاومة المشروعة لنيل الحقوق الفلسطينية المغبونة. وهذا الشعار النضالي سلاح فعّال لمواجهة حالة العجز الفلسطيني الرسمي، والتي تُترجمُ عبر إبداء الاستعداد للقبول بأي فتاتٍ قد يُقدمَ لها تحت شعار "حل الدولتين".
رفض الكاتب والباحث صقر أبو فخر هذا الشعار، والذي يبدو له كأنه غير واقعي، دفع به، من حيث لا يدري، إلى إعطاء "شرعية" للحقوق القومية اليهودية المُدّعاة في فلسطين، تلك "الحقوق" التوراتية و"الوعود الربانية"، بما هي لب الإيديولوجية الصهيونية وجوهرها، والتي سطت على الديانة اليهودية في وضح النهار، لتحولها إلى دين قومي. وإذا لم نذهب بعيداً، قد نستطيع القول إن الاستيعاب الداخلي العميق لقوة السردية الصهيونية هذه هو ما قد دفع كاتبنا إلى استنتاج أن "حل الدولتين يبقى أكثر الحلول واقعية".
نعم، مؤكّد أن المجتمع الإسرائيلي ينحو إلى مزيد من الفاشية والعنصرية. ولكن، لن يكون هذا التوجه سبباً كافياً للقول إن شعار الدولة العلمانية الواحدة لا حظّ له بأن يلقى آذاناً صاغية، فعملية التلقي من عدمه تتأثر سلباً أو إيجاباً بمستوى الصراع وزخمه ودرجاته، وتلك المستويات المتحرّكة والمتقلبة من حالٍ إلى حال، ترتبط بشعارات المرحلة للقوى المنخرطة في هذا الصراع، ولن يكون شعار "حل الدولتين" سوى تخفيض لحالة الصراع وزخمهوقوته واعطاء إسرائيل الهدوء المطلوب، لمواصلة عملها على قضم ما تبقى من فلسطين وضمه بهدوء وراحة. ما سمُيّت "عملية السلام والتفاوض" العبثية هي الدليل القاطع على أن شعار "حل الدولتين" هو ما منح المشروع الكولونيالي مزيدا من الوقت، لممارسة سياسات التغوّل والقتل والتدمير، وما أدّى، في المحصلة النهائية، إلى بروز توجهاتٍ نحو مزيد من التطرف والفاشية في داخل المجتمع الكولونيالي. في المقابل، من شأن شعار النضال من أجل فلسطين دولة علمانية واحدة أن يعيد القضية إلى مربعها الأول، مؤدياً إلى تأجيج حالة النضال ورفع مستوى الصراع وإجبار الطرف الإسرائيلي على مراجعة حساباته، ليس فقط داخل المؤسسة الصهيونية الحاكمة، وإنما أيضاً لطرح أسئلة مصيرية داخل "المجتمع" الإسرائيلي بجميع أطيافه.
من شأن اقتراح الحل العلماني للصراع أن يُفقد الطرف الصهيوني قدرته على التحكم بمسار الزمن الراهن ووجهاته، إذ يفتتحُ أفقاً لا مكان له فيه، لطبيعته العنصرية والفاشية، فبمواجهة التفوق الأخلاقي للشعار العلماني، ستتوفر إرهاصاتٌ لزمنٍ مفتوح على مستقبلٍ إنساني شمولي، تتقاطع به مبادئ العدالة والحقوق لشعوب العالم، ومنها حقوق شعب فلسطين في وطنه والحقوق المدنية والثقافية للتجمع اليهودي في فلسطين العربية والعلمانية.