دولي
الماسونية في فلسطين خرافات وأغاليط وحقائق
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 10 نوفمبر 2018
شُغفنا منذ بداية قراءاتنا بالروايات الغامضة، وبالقصص التي تتفكّك أسرارها كلما أوغلنا في انتهاك صفحاتها. وكانت الروايات البوليسية هي التي تثير أخيلتنا، أمثال روايات أغاثا كريستي ولا سيما روايتيها "جريمة في قطار الشرق السريع" (1934) و"موت على النيل" (1937)، ومثل سلسلة موريس لبلان عن "اللص الظريف" أو أرسين لوبين. وقد انتقل الغرام بعالم الأسرار والخفايا إلى التاريخ العربي، وكان دافعًا إلى دراسة الجماعات السرية أو ديانات الأسرار التي يمكن أن نعثر على جذورها في عقائد الخصب المقدسة في العراق والشام ومصر. وفي التاريخ العربي جماعاتٌ شتّى من هذا العيار، أمثال القرامطة وأخوان الصفا والإسماعيلية والعلوية والدرزية والبهائية والأحمدية والإيزيدية، فضلاً عن الصابئة والصارلية والشبك وغيرها. وعلى هذا المنوال، لا بد من الالتفات أيضاً إلى جمعية الصليب الوردي مثلاً، وإلى منظمة فرسان الهيكل والماسونية وخلافها.
استهواني اكتشاف أسرار تلك الجماعات، لأنها، بالدرجة الأولى، سرّية، ويكتنفها الغموض أيما اكتناف. لكنني تنبهت إلى أن معظم تلك الحركات ليست سرّية تماماً، مع أن لديها أسراراً مختلفة. فالماسونية، على سبيل المثال، علنية في معظم بلاد العالم، ورجالها معروفون، وكذلك اجتماعاتها التي تُعقد تحت أنظار أجهزة الأمن، حتى أن محاضر الاجتماعات تُقدّم إلى الجهات المختصة في ما عدا، بالطبع، الدول التي تحظر الماسونية (راجع: عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الجزء الخامس، ص 458-468، القاهرة، دار الشروق، 1999). ومع ذلك، ثمّة خرافاتٌ وأوهامٌ لا حصر لها عن الماسونية وتاريخها ورجالها وصنائعها، فثمّة من ادّعى، أمثال سعيد الجزائري، أن أصل الماسونية هو "جمعية القوة الخفية" التي صلبت المسيح ودست السم للنبي محمد، واخترعت عبد الله بن سبأ وكعب الأخبار، وهو كلامٌ مبتذلٌ ردّد بعضاً منه عوض الخوري في كتابه "أصل الماسونية". وفي هذا الكتاب، يستفيض كاتبه في الكلام على عبقريته لاكتشافه السر المخفي عن العالم بأسره، بمن فيهم عموم الماسون، وهو وجود "جمعية القوة الخفية" التي أسّسها حيرام آبي من سبط يهوذا في 24/6/43 ميلادية (لاحظوا الدقة في تاريخ التأسيس، أي باليوم والشهر، وهي دقّة زائفة). وعلى هذا الغرار، مارست كتب كثيرة في هذا الميدان تضليلاً علمياً وتاريخياً على عقول العرب، مثل بعض آراء حسين عمر حمادة في كتابيه "شهادات ماسونية" (دمشق: دار قتيبة، 1983)، و "الأدبيات الماسونية" (دمشق: دار الوثائق، 1995)، وكذلك نعمان السامرائي في كتابه "الماسونية واليهود والتوراة" (لندن: دار الحكمة، 1994)، والشيخ محمد علي الزعبي في كتابه الهزيل "الماسونية في العراء" (بيروت: مطابع معتوق، لا تاريخ). ومن الكتب المتهافتة "تاريخ الجمعيات السّرية والحركات الهدامة" لمحمد عبد الله عنان (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة، 1954)، و "الصهيونية والماسونية" لعبد الرحمن سامي عصمت (الإسكندرية: مطبعة رمسيس، 1950)، و"الجمعية الماسونية: حقائقها وخفاياها" لأحمد غلوش (القاهرة: الدار القومية، لا تاريخ). وفي جميع هذه الكتب ونظائرها الكثيرة، لا حقائق تُعرض، ولا خفايا تُكشف، وإنما مجرد ثرثرة و"لتٌّ وعجن" لأرباع الحقائق True lies وخرافات سارية وخيال كسيح.
لا يعني إيضاح ما استشكل في شأن الماسونية، على الإطلاق، الدفاع عنها أو عن تاريخها أو سياساتها أو عقائدها؛ فهذا ليس شأننا ألبتة، بل هو دفاع عن العلم وعن الوقائع الثابتة، بعدما
توارت الحقائق خلف الخرافات، وهذه كثيرة جداً. ليكن الكلام على الماسونية إذاً، وعلى أي جماعة سرية أو شبه سرية، مستنداً إلى الحقائق، بعدما كُشفت الأسرار وأُزيحت الأستار منذ زمن بعيد. ثم، بعد ذلك، ليعبّر كل واحد عن موقفه من هذه الجماعات أو تلك، وغايتنا دائماً الحقيقة العلمية، ولا شيء غيرها. أما أن يُرمى أصحاب هذه المذاهب أو العقائد بتهم كاذبة، كالتكفير والزندقة والعمالة للصهيونية والاستعمار، ويُسرد تاريخُهم، وتُروى عقائدهم بطرائق لا تمت إلى الحقائق بأي صلة، ثم تُقام عليهم الحدود، فهذا افتراءٌ ونكايةٌ وجهالة. ومن غير الممكن التسامح مع الجهل في عصرٍ يتيح الوصول إلى المعلومات الصحيحة بحرية وسهولة.
قرأنا منذ ثماني سنوات مقالة هاذية لأستاذ جامعي فلسطيني، عنوانها "الماسونية تغزو فلسطين" (صحيفة اللواء، اللبنانية، 1/6/2010) كتب فيها "إن ناقوس الخطر الماسوني في فلسطين يدق منذ زمن بقوة (...)، ونفوذ الماسونيين يزداد يوماً بعد يوم، وأعداد الماسونيين في تزايد (...)، وأن الماسونية أخطر بكثير من الصهيونية العالمية". وقد خلط الكاتب حابل الصهيونية ونابل الماسونية بخرافاتٍ متداولة هنا وهناك على طريقة الشيخ محمد علي الزعبي، ومنها أن معنى الماسونية هو "حركة البنّائين"، أي "الذين يعملون على بناء هيكل سليمان". ثم ملأ مقالته بالأكاذيب التي لا يجوز لأستاذ جامعي أن يردّدها من دون تحقق، كقوله إن الماسوني يتزوج إمرأة مدة شهرين ثم يرميها لكلاب الماسونية فتصبح عاهرة. ويطابق هذا المستوى الضحل من الافتراء ما كان يردّده الإسلاميون في فلسطين والأردن عن الشيوعيين البلشفيك، بالقول إنهم يضاجعون أخواتهم، وصارت كلمة "البلشفيك" مسبّة شائنة.
مها يكن الأمر، بحثنا وفتشنا عن الماسونية في فلسطين، وعن ازدياد أعوانها وأعضائها ومريديها، وسألنا باحثين مشهوداً لهم بالمعرفة والكفاءة في الضفة الغربية، علاوة على مسؤولين أمنيين يسمعون حتى دبيب النملة، فكان بعضهم يقلب شفتيه هازئاً، وبعضٌ آخر يهز رأسه ساخراً من هذه الكتابات المهلهلة. وها نحن بعد ثماني سنوات على تلك المقالة الهذيانية، لم نلحظ غزواً ماسونياً لفلسطين، أو أي أثرٍ لذلك الخطر المحدق.
الحقيقة أن الماسونية لم يكن لها أي شأنٍ مهم في تاريخ فلسطين المعاصر، جرّاء المصائب والويلات التي حلّت بفلسطين، منذ انتقالها من السيطرة العثمانية إلى السيطرة البريطانية. وكانت مقاومة الانتداب ومواجهة الهجرة اليهودية والمشروع الصهيوني في مقدمة القضايا السياسية التي استولت على عقول الفلسطينيين وزنودهم منذ نحو مئة سنة. ثم إن نكبة فلسطين في سنة 1948 مثّلت بداية انحسار الماسونية في المشرق العربي عموماً، وفي مصر وسورية ولبنان خصوصاً.