دولي

أبعد من التطبيع

القلم الفلسطيني

نعيش في منطقتنا تناقضاً قد يراه بعضهم غريبا، بين توالي الأخبار عن نجاحات حركة مقاطعة إسرائيل من ناحية، وتدفق مظاهر التطبيع العربي من ناحية أخرى، والذي يتراوح بين تسريباتٍ إعلامية عن اتفاقات أو توافقات، وأشكال التطبيع السياسي والرياضي والثقافي والاقتصادي العلنية. لذا، وبعيداً عن الدخول في سجالاتٍ تنطلق من تعريف المعرّف، أي التطبيع؛ والتي غالبا ما يهدف أصحابها إلى تبرير هذا السلوك أو ذاك، من الأجدى العودة إلى جذر المشكلة الذي ساهم كثيرا في تحويل العلاقة مع إسرائيل إلى خلافٍ في وجهات النظر، يحتمل قراءاتٍ مختلفة، وهو ذاته يحول دون تحويل نجاحات حركة المقاطعة إلى إنجازاتٍ سياسية، كان في الوسع أن تؤدي إلى دفع مسار استعادة حقوقنا المسلوبة. حيث يعود جذر التناقض الحاصل اليوم إلى حالةٍ من تشوّه الوعي في التعامل مع قضية الفلسطينيين الذين شرّدوا وقتلوا؛ وانتزعت منهم أراضيهم وممتلكاتهم، وجزءٌ من تاريخهم. إذ باتت القضية الفلسطينية، عالميا وعربيا، إعلاميا وسياسيا، مجرّد نزاع حدودي بين طرفين، أحدهما دولة قائمة بذاتها هي إسرائيل، وفق المنظور الدولي، والآخر مجموعات بشرية مبعثرة، وفاقدة أياً من مقومات الدولة أو حتى الجماعة الموحدة، وهم الفلسطينيون عموما. وبالتالي، أصبحت إسرائيل واقعا سياسيا وكيانيا لا يمكن إغفاله؛ يتزامن مع تسليمٍ مطلقٍ، يصل إلى حد الاعتراف بحقها في حماية هذا الكيان أو الدولة كما يحلو لهم وصفها.

وعليه، وعلى الرغم من إصرار بعض مكونات حركة المقاطعة في الدول العربية (BDS) على التأكيد على حقيقة القضية الفلسطينية، والطبيعة العُصابية الإسرائيلية، ورفض أيٍّ من أشكال التعامل معها أمرا واقعا، إلا أن العالم العربي، كما الدولي، يسير في مسار آخر تماما، حتى في الأوساط الشعبية العربية والعالمية الداعمة والمؤيدة للحق الفلسطيني، على اعتبار أن الحق الفلسطيني يجب أن لا يتعارض مع حق إسرائيل في تشييد دولة مستقلة وفقاً لقرار التقسيم. وبالتالي، كانت مجمل جهود حركة المقاطعة، وما زالت، منصبةً على ممارسة الضغط الثقافي والاقتصادي والسياسي على ما تعتبره دولة إسرائيل، من أجل وقف سياسات قضم الأراضي والحقوق الفلسطينية المعترف بها، وعرقلة المسار التفاوضي، وحصار بعض المناطق ذات الغالبية السكانية الفلسطينية، مثل غزة، وجزء من مدينة القدس، والضفة الغربية نسبياً، وغيرها من الممارسات التي تقوّض تشييد الدولة الفلسطينية أو تعيقه. 

يعود فرض النظام العربي إسرائيل علينا أمراً واقعاً إلى المشاركة الواسعة في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، والذي حوّل الموضوع الفلسطيني من قضية شعب مشرد وأرض محتلة إلى قضية تنازع على حدود الدولة وصلاحياتها وبعض الضمانات المتبادلة، وأصبحت إسرائيل دولةً ذات حدود مجهولة وغير محدّدة. وبالتالي، بتنا أمام مشهد رسمي عربي يقر ويعترف ضمنيا بحق اليهود في إقامة دولتهم العتيدة على أراضينا، وإن اختلفت الاستراتيجيات العربية لإعلان هذا الاعتراف. فمن جهةٍ، تحاول السلطة الوطنية الفلسطينية أن تجعل من إقامة الدولة الفلسطينية، وإبرام اتفاق سلام نهائي بينها وبين الاحتلال؛ شرطا أساسيا غير قابل للمساومة، يسبق الاعتراف العلني العربي، وجميع أشكال التطبيع العربي مع الاحتلال. ومن جهة أخرى، يتوجه محور الممانعة، وفي مقدمته النظام السوري، بمطالبة العرب بتوحيد اللجان التفاوضية العربية، من أجل ممارسة أكبر ضغطٍ ممكنٍ على الاحتلال وداعميه، وهو ما قد يفضي إلى تحقيق نجاحاتٍ أكبر، وعلى مستوى جميع الأقطار، قبل تغيير خطاب النظام العربي ومنهجيته تجاه إسرائيل. 

إذاً، نحن أمام مشهد عربي منسجم بشكل كامل مع المشهد الدولي الذي لا يجد غضاضةً في اعترافه بدولة الاحتلال، والقبول بمشاركتها الرسمية في المحافل الدولية السياسية والرياضية والفنية، إلى درجة أن مؤسسات المجتمع الدولي باتت ترفض قبول طلبات استضافة أي من الأحداث العالمية، رياضية أم فنية أم سياسية، إن لم تُرفق بتعهد رسمي يقرّ بحق جميع الدول، وفي مقدمتها الاحتلال، في المشاركة على قدم المساواة مع أي دولة أخرى. وهو ما يعتبره بعضهم تبريراً لرفع علم إسرائيل (الاحتلال) عاليا في السماء العربية أخيرا، وربما مستقبلاً كذلك في واحدة من أكثر التظاهرات الرياضية العالمية شعبيةً وانتشاراً، أي كأس العالم المزمع إقامته في دولة قطر، فضلاً عن إمكانية مشاهدة مواجهة رياضية بين الاحتلال وأحد المنتخبات العربية المتأهلة أيضا! 

ليست هذه المقالة في وارد التقليل من أي خطوةٍ تطبيعيةٍ، مهما كانت الظروف والشروط التي أدّت إليها، بل على العكس. لذلك من الأجدى التوقف عن اللهاث فقط خلف نتائج الاعتراف غير المعلن بإقامة دولة إسرائيلية على أراضينا، عبر الدعوة إلى عملٍ موازٍ يهدف إلى إعادة البوصلة الفلسطينية والعربية والإنسانية والدولية إلى موضعها الطبيعي الذي نزجّ عبره جميع عصابات الإجرام والاستيطان، ونهب الأراضي والممتلكات والتراث؛ في قفص الحصار والمقاطعة والطرد العلني من جميع المؤسسات الدولية، الرياضية والفنية والسياسية والإنسانية.

وهو ما يتطلب التوقف عن تقسيم النضال، أي التفرّغ الكامل من أجل خدمة جانب واحد ومحدّد، كالدفاع عن حق العودة، أو نشر ثقافة المقاطعة، أو كسر حصار غزة، وغير ذلك من الجوانب المهمة، نحو إعادة الاعتبار للنضال الشامل والكامل والمتكامل، النضال الذي يحتاج إلى برنامج وقوى تحرّرية واعية ومدركة أهمية المعارك النضالية الثقافية والاقتصادية والسياسية، وتعي ضرورة تكامل كل منها ودعمها المتبادل. 

قد يعتبر بعضهم أن هذا الحديث مجرد ضربٍ من الخيال، نظراً إلى مدى قتامة الحاضر، وهو محقٌّ بذلك، في حال انتظار هذا التغيير، ليحدث بصورة عفوية ومن تلقاء ذاته، بينما قد نجد مزيدا من الدوافع لتغييره، إن حاولنا استقراء مستقبلنا في ظل استمرار الوضع القائم. وعليه، يمكن القول إن هناك خيارين لا ثالث لهما، الأول قبول إسرائيل أمرا واقعا، لا يمكن تغييره، وبأنها المتحكّم الأول في المنطقة، وتملك اليد العليا على كل محيطها العربي المشرذم. وبالتالي، نحن مقبلون على مرحلةٍ سوف تشهد مزيداً من الخطوات التطبيعية، تحت حجج وذرائع وأسباب مختلفة، ومن دون أي تقدّم يُذكر على مستوى الحقوق العربية والفلسطينية المستلبة. ويقوم الثاني على ضرورة العمل من أجل تغيير المستقبل، عبر هدم الأسس والقواعد السياسية والثقافية والدولية التي حوّلت عصابات إجرامية وعنصرية إلى كيان معترف به في جميع المحافل الدولية. 

حيّان جابر

 

من نفس القسم دولي