دولي

فلسطين.. فشل السلاح والسلام

القلم الفلسطيني

ساري عرابي

 

"لقد تبادلنا الحديث بحرارة، ولكنني أريد أن أقول: لقد درست قضيتكم والظروف المحيطة بها بدقة، إنها قضية صعبة تتداخل فيها المشاكل تداخل أسنان القرش. إذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار بها فإني سأكون سعيدًا لدراسة قوانين جديدة لحرب شعب في ظروف لا تنطبق عليها قواعد حرب الشعب التقليدية".

كانت تلك ملاحظة أبداها في ثوب النصيحة والأمنية، الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ"؛ لوفد فلسطيني زاره في العام 1964. بعد ذلك التاريخ فجّر الفلسطينيون ثورتهم، مهتدين بتجارب ثورية حاولوا استنساخها، كالثورة الجزائرية، والثورة الفيتنامية. لم تكن فلسطين هي الجزائر، ولا الأردن ولا لبنان هي "هانوي"، ولكن الفلسطينيين لم يخطؤوا حينما ثاروا، ولكنهم أخطأوا كثيرًا في كثير مما فعلوه وقالوه في خضم هذه الثورة وتوابعها.

لم تحرر الثورة فلسطين، ولم تتحول الثورة إلى حرب الشعب، أو إلى حرب تحرير شعبية. لم يكن الخطأ في أن نثور، ولكن الخطأ كان في تصوراتنا عن هذه الثورة، من قبيل الاعتقاد أنه يمكنها وحدها أن تحرّر فلسطين، أو أنه يمكنها، في حينه، جرّ العرب لحرب تفضي إلى تحرير فلسطين، كانت أخطاؤنا في سوء تقديرنا لإمكاناتنا، وسوء قراءتنا للظرف الإقليمي وموازين القوى الإقليمية والدولية، وفي خطاب الثورة وفصائلها الذي عبّأت به الشعب، وفي أنّ هذه الثورة تحوّلت سريعًا من موقف ثوري، ولو على مستوى الوعي والخطاب، من النظام العربي، إلى ساعٍ للدخول إلى النادي الرسمي؛ الوجه الآخر لمأساة فلسطين.

 

أراد النظام العربي التخلّص من العبء الفلسطيني مع استمرار الإمساك بقرار الفلسطينيين؛ وفي الوقت نفسه توظيف قضيتهم في صراعات الأنظمة البينية أو في علاقاتها ومصالحها الدولية، فاخترعوا منظمة التحرير، فترفع فتح في مقابل ذلك "القرار الفلسطيني المستقل"، الذي بدا أنه يعني إلى حد ما التسلل إلى ذلك الاختراع العربي (أي المنظمة) والإمساك به والسيطرة عليه، في سياق الصراع على تمثيل الفلسطينيين، ولأجل الدخول في "النادي الرسمي العربي".

لم يرد أحد من العرب –والحديث كله منصبّ على أعضاء النادي الرسمي- في ذلك الوقت تلك الثورة، فكان لا بدّ منها للفلسطينيين، أصحاب القضية بالدرجة الأولى الذين يكابدون وحدهم الاحتلال، ويتجرّعون اللجوء، ويذوقون الخذلان، وهذا يعني بالضرورة صدامًا حتميًّا مع النـظام العربي، بيد أننا انحرفنا سريعًا عن الضرورة الأصلية للثورة للبحث عن مكان داخل ذلك النظام الذي لا يريد ثورتنا!

بلورت الثورة هويتنا في مواجهة الاحتلال، وصهرت مجتمعات الفلسطينيين في شعب واحد، وحالت دون طمس القضية التي لم يزل النظام العربي مستعدًّا لتقديمها قربانًا لأخسّ الغايات، بيد أننا وحينما صرنا جزءًا من هذا النظام الذي هو –ومرة أخرى- الوجه الآخر لمأساتنا، صرنا جزءًا منه في كل شيء.

وكما أنّ الثورة حُمّلت فوق طاقتها، والشعب عُبّئ بخطاب غير واقعي تنوء به طاقته ولا يجد له في واقع الثورة مصاديق من الممكنات، فإنّ الأمر نفسه تكرّر لما أخذت الثورة تتحول في خطابها نحو ما سمّي "مشروع التسوية" أو "العملية السلمية"، فلم يقرأ أصحاب ذلك التوجّه الظرف الإقليمي والدولي وموازين القوى فيه، ولم يقل أحد لنا كيف يمكن لـ "إسرائيل" أن تنسحب من الضفة الغربية بهذه البساطة، وتتخلّى عن عمقها الاستراتيجي ومادة دعايتها الصهيونية، في واقع يحكمه ميزان مختلّ إلى هذا الحد! لم يقل أحد لنا كيف أن هذا سيحصل حينما نلقي سلاحنا، فألقيناه فصرنا إلى ما صرنا إليه!

دعونا نقول إن الثورة، التي لم تكن قادرة على تحرير فلسطين، لم تكن خطأ، بل كانت ضرورة، أي مبدأ الثورة، بيد أن الشكل والخطاب والوعود والمشكلات الناجمة عن ذلك كان فوق طاقة الثورة نفسها، وفوق قدرة الشعب. كانت الثورة ضرورة للحفاظ على فلسطين قضية وهوية ورواية ومقاومة وشعبًا وطريقًا لاحبة تشير دائمًا إلى ضرورة تصحيح هذا الخطأ التاريخي المسمّى "إسرائيل".

أمّا "العملية السلمية" فكانت خطيئة صرفة، ولا ينفي عن الخطيئة وصفها هذا إن كان فيها بعض المنافع، بيد أنها خطيئة في الأمر كله، أوله وآخره، فأخذت تفعل العكس في كل ما أنجزته الثورة، فأعادت الشعب الواحد إلى شعوب ومجتمعات، وفتحت الطريق أمام تطبيع وجود العدو، وصارت حجّة على الفلسطينيين بعدما كانت الثورة حجّة لهم، وصارت عبئًا يصعب التخلّص منه، ويستحيل استثماره لاستعادة الطريق الأصيلة في مواجهة العدوّ.

وقد تكرر الخطأ الذي تخلّل الثورة، تاليًا في كل مواجهة، في الوعود والتصورات التي تفتقر للإمكانات؛ في الانتفاضة الثانية حينما تخيّل بعضنا إمكان تحرير الضفة بها، وهكذا في كل حرب أو مواجهة تَعِدُ بما يفوق طاقتها أو لا تسمح به موازين القوى.

وأمّا مشروع التسوية الذي رفضته حماس، فقد دخلت في ثمرته، التي هي السلطة، والتي أخذت تُذوّب كل إنجاز لنضالات الفلسطينيين في الكأس الإسرائيلي، وأرادت حركة حماس، التي يُفترض أنها حالة تصحيحية في تاريخ الحركة الوطنية، الجمع بين مكانها داخل السلطة، وبين وظيفتها في المقاومة، ولأن السلطة في هذا السياق نفي للمقاومة، صار الأمر بالغ التعقيد، وأمّا بقية الحكاية فمعروفة.

الصواب الوحيد في كل ذلك، ابتكار الثورة، والإيمان بضرورتها، إلا أن الأخطاء في التصورات والأدوات التي رافقتها كانت على حساب الثورة نفسها، ومع أن ذلك يستدعي إعادة نظر في مسارنا الكفاحي والسياسي لأجل الضبط الدائم لهذا المسار على طريقه الصحيح، إلا أن الإنجاز في هذا الصدد أقل مما ينبغي، وأقل مما يمكن، ثم إننا في هذه الطريق تورطنا في عيوب، عامّة وخاصّة، إذا افترست حركات التحرر قبل إنجاز مشروعها فإنّ ذلك من شأنه أن يذوي بأعدل القضايا وأكثرها قوّة فيما تنطوي عليه من حق.

لقد أدّت الثورة وظيفتها، وإنما فشلت تصوراتنا التي حمّلناها للثورة، فكانت تصوراتنا عبئًا على الثورة والجماهير، وخطرًا يفتك بهذه الثورة..

 

من نفس القسم دولي