دولي
القضية الفلسطينية.. وأبجديات العمل الإنساني
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 29 أوت 2018
لا حدود لمتعة العطاء، واكتساب كم وافر من الرضا النفسي الذي يفتح أبواب السعادة الذاتية، حين يكون ارتباطها وثيقاً بصناعة السعادة في نفوس الآخرين، تلك إحدى الخلاصات التي يمكن لنا تثبيتها دون أدنى ريب في سجل مسيرة أعوام طويلة في مجال العمل الخيري والإنساني.
اتساع التجربة مع مرور الزمن، واكتساب أبجديات العمل الإنساني، يفتح الآفاق الرحبة في كل مرة أمام جدوى استحضار الذات الإنسانية النقية كي "تطهّر" ما يلحق بالنفس البشرية من تشوهات الجشع، والانحراف عن السليقة، الذي يستبيح المعاني الإنسانية الأولى فيحولها إلى نقائضها، لتكون معها النتيجة استبدال المحبة بالكراهية، والوفاق بالتنازع، والانسجام بالتوحش، وما إلى ذلك.
يأتي دور العمل الإنساني كضابط لإيقاع الاختلالات التي يحدثها تبدّل وتشوه المفاهيم الإنسانية إلى ما يمكن أن يحيل معه الحياة الحقيقية التي تتجلى فيها معاني إنسانية الإنسان، كما يريدها خالقها (جل وعلا)، إلى حياة "جوفاء" من مضامينها، لا تحمل من المفهوم سوى هياكل بائسة متخمة بكل ما هو زائف، من تغليب مادية الأشياء على روحانياتها، لتضيع معه في نهاية الأمر هوية الإنسان وجدوى وجوده.
وأكثر من ذلك، فالعمل الإنساني الذي يحتفي العالم هذه الأيام بيومه العالمي، أكسبنا، ولا يزال، الأدوات التي يمكن من خلالها "إنعاش" الذاكرة البشرية عبر تلميع صورة الإنسان الحقيقية بما تحويه من مبادئ، وأصول، وجماليات، وتشكيل "جبهة" مانعة تصد ما تنتجه التشوهات من قبح وخواء روحي وفكري، وتمتص الكثير من آثارها الرهيبة على حاضر ومستقبل البشرية.
علمتنا التجارب بأن العمل الإنساني علم واسع، كلما نهلت منه احتجت ثم طلبت منه المزيد والمزيد، علم يمكن لنا تعريفه مجازاً –إن جاز التعبير- بأنه يختص بصناعة الفكر والروح الإنسانية الحقيقية، على حد سواء، وإنضاجهما بما يهيئ الظروف فيما بعد لإنتاج مجتمعات سوية، يتواصل أفرادها فيما بينهم بالطرق والوسائل التي تمنح للحياة معانيها المستمدة من الفطرة، والقائمة على تعظيم مبادئ الاحترام، وصون الكرامة، وإحقاق الحقوق، وترسيخ محددات هذه المبادئ من خلال فرز ما هو زائف عن ما هو حقيقي، والصادق مما هو كاذب، والمحسن من المسيء..إلخ.
العمل الإنساني عقيدة أيضا، تنبع من الإيمان بالقضية الإنسانية، التي ينسل منها ما هو حقوقي ووجداني واجتماعي وثقافي، وغيرها، بينما تكتسب هذه العقيدة قوتها من خلال اكتسابها لأدواتها التي من خلالها يجري قياس مناسيب احترام الإنسان للمبادئ الفطرية المجردة، وبالتالي رسم خارطة طريق يسير عليها العمل الإنساني، حيث يتخذ أشكاله الطوعية و"النضالية"، في بعض الأوقات، لترسيخ مبادئه.
القضية الفلسطينية إحدى أبرز وأهم هذه القضايا في زمننا المعاصر، لمقدار ما استوجبته، ولا تزال، من حشد طاقات إنسانية، ليس من وظيفتها فقط إيصال المساعدات الإغاثية، بل يتركز دور هذه الطاقات الحقيقي في مجالات عدة، من بينها تقويم انحرافات السياسة، ومواجهة تزييف التاريخ، والتجني على الهوية والحضارة، والتصدي لسيرة الكذب وتجريم الضحية التي تمارسها دولة الاحتلال الصهيوني بحق أبناء الشعب العربي الفلسطيني.
ليس من السهل تحديد من اختار الآخر، فيما إذا كان اختيارنا لخوض غمار العمل الإنساني بكثير من التركيز على تداعيات الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وتشريد شعبها، ونهب خيراتها، وممارسة عنصريته وطغيانه في أبشع صورها، أم أن الاختيار كان تعبيراً عن حالة اصطفاء تمنحها عدالة هذه القضية دون غيرها من القضايا، سيما وأن هذه القضية تحمل من الرمزيات الكثير انطلاقاً من اعتبارات العدالة المفقود لأصحاب الحق، واستيلادها لأزمات إنسانية هنا وهناك، وفي بقاع مختلفة من الأرض، نتيجة استمرار تغييب هذه العدالة.
وفي ذلك، يستوعب العمل الإنساني في سبيل القضية الفلسطينية الكثير من منتسبيه، بل ويحتاج دوماً إلى استنفار المزيد من مناضليه، وفي مختلف الحقول والميادين، سواء الخيرية أو الحقوقية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وغيرها، نظراً لاستمرارية تفاعلاتها على مر السنين، في الميادين والحقول كافة.
وفي الوقت ذاته تشكل القضية الفلسطينية حالة استدعاء مستمر للضمير الإنساني، بمستوياتها الفلسطينية والعربية والدولية، فهي إلى جانب رمزياتها، تتخذ تداعياتها أشكالاً مختلفة في كل مرحلة سياسية تمر بها، ففي البدايات كان احتلال الأرض، ثم تشريد غالبية سكانها منها وتحويلهم إلى لاجئين ينتشرون في بقاع عدة من الأرض، وفي مراحل لاحقة نهب خيرات الأرض، وسرقتها، والاستيطان فيها، وتهويد المقدسات، والتنكيل بأبناء الأرض عبر القتل والتجويع، انتهاءً بالحصار الطويل وخنق أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة.
وبناء على ذلك، أصبح لحصار غزة رمزية أخرى، من باب تمثيله لشكل وطبيعة المرحلة السياسية والإنسانية الحالية، حيث لم يشهد التاريخ من قبل تكريس مثل هذا النوع من الحصارات، التي يجري فيها سجن مليوني إنسان في بقعة صغيرة من الأرض، وحرمان أطفالهم من حليب الرضاعة، ومرضاهم من الدواء، ومنازلها ومرافقها الحيوية من الوقود الذي يضيء أنوارها، ويقوم بوظائفها الخدمية، لفترة تزيد عن العقد من الزمن.
وليس للقضية الفلسطينية عامة، ولقضية الحصار على غزة بشكل خاص، إلا أن تستقطب المزيد من المناصرين من أحرار العالم، يشحذها بذلك عنجهية الاحتلال واستمراره في ارتكاب جرائمه بحق الشعب الفلسطيني دون رادع، وسعيه الدائب على خنق صوت الحق والعدل، ليأتي الدور بالغ الأهمية للمناضلين من العاملين في مجال العمل الإنساني من خلال إمداد الشعب الفلسطيني وقضيته بأسباب الحياة.
عصام يوسف