دولي
إصلاح منظمة التحرير: التصدي للتبعية أولوية
اتفاق القاهرة 2005 مناسبًا للإصلاح
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 22 أوت 2018
في وقت مبكر من تاريخ المأساة الفلسطينية وعقب قرار صدر عن القمة العربية التي عقدت بالقاهرة عام 1964م أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية وذلك كي يصبح للفلسطينيين لسان فلسطيني رسمي يتحدث عنهم ويمثلهم ويدافع عن قضاياهم في المحافل العربية والدولية، وينظم ويتابع شؤونهم في شتى أماكن وجودهم، وقد استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية أن تجسد نفسها كمرجعية وطنية ينظر من خلالها في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتطوراتها على كافة الصعد سياسية كانت أو عسكرية أو اجتماعية، بل وأصبحت الوطن المعنوي والإطار الجامع للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات تعبر عن هويته وشخصيته وكيانه الوطني المستقل ورَسخت ذاتها كمنصة عليا لكافة التشكيلات والهيئات والمؤسسات الوطنية الفلسطينية، واكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية بذلك شرعية وطنية وقانونية وعربية وإقليمية ودولية والاعتراف بها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني لتصبح منظمة التحرير أهم منجز حققه النضال الفلسطيني طوال مسيرته.
تصدت المنظمة في سنواتها الأولى لمحاولات عدة من أطراف عربية ودولية حاولت الالتفاف على القرار الفلسطيني أو فرض أجندتها ورؤيتها الخاصة لتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي على الطرف الفلسطيني، وتراوحت علاقة المنظمة بالأنظمة العربية ما بين الشد والرخي وذلك بحسب انسجامهما أو اختلافهما في المواقف السياسية، وهذا بالتأكيد أثر بشكل كبير في علاقة ومكانة منظمة التحرير بالأنظمة العربية، فمثلًا العلاقة ما بين منظمة التحرير الفلسطينية والمملكة الأردنية الهاشمية كان يشوبها الكثير من التأزم والاختلاف، فالمنظمة كانت ترى أن السلطات الأردنية عائق أمام مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي وأنها تحاول التحكم في مسار العمل العسكري الفلسطيني وكيفيته، في حين كانت المملكة تعتبر قوات منظمة التحرير الموجودة على أرضها دولة داخل الدولة وتسعى لقلب الحكم، هذا التأزم وصل في نهايته إلى الاقتتال المسلح والتصادم العسكري بين منظمة التحرير والنظام الأردني في أحداث أيلول الأسود، والتي نتج منها خروج المنظمة من الأردن إلى لبنان وبذلك خسرت جبهة عريضة لمقاومة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
العلاقة ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية مصر العربية انتابتها أيضًا فترات من الجفاء والتنافر وعلى رأس تلك الفترات موقف منظمة التحرير من اتفاق السلام كامب ديفيد الموقع ما بين الرئيس المصري أنور السادات ودولة الاحتلال الإسرائيلي، والذي وردت في نصوصه اقتراحات لحل الصراع الفلسطيني في محاولة للالتفاف على القرار الفلسطيني وفرض أجندة النظام المصري عليه، وقد رفضت منظمة التحرير اتفاق كامب ديفيد بشكل قاطع وجرمته وجرمت أشخاصه وهاجمته ونددت به من قبل أطرها الرسمية، إضافة إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت مشاريع التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي حتى تلك المشاريع التي طرحتها أطراف عربية، ذلك لتعارضها مع مبادئ المنظمة السياسية وتطلعات وآمال الشعب الفلسطيني وانتقاصها وتنكرها لحقوقه المشروعة.
لكنها وتحت ضغوط عدة ونوازل قصمت ظهرها وفتّت عصبتها، خصوصًا بعد خروجها من لبنان، وقعت في مصيدة أوسلو فصافحت العدو وتصالحت معه واعترفت به وأبرمت معه الاتفاقيات والتفاهمات مما دفعها إلى إحداث تغيرات جوهرية ومفصلية في بنية منظمة التحرير الفكرية والسياسية وتركيبتها الهيكلية، وانحدرت مع الوقت مكانة منظمة التحرير فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا حتى أُفرغت من مضمونها كإطار ومظلة جامعة للكل الفلسطيني تعبّر عن إرادة الشعب وتسعى لتحقيق آماله، وأصابها الوهن والترهل وانحسر دورها وتراجع تأثيرها في ظل هيمنة السلطة الوطنية الفلسطينية على كل ما يتعلق بالواقع الفلسطيني وتفردها بمؤسساتها السلطوية في رسم مستقبل القضية الفلسطينية وتقرير مصير الفلسطينيين دون مراعاة التعدد الفصائلي والحزبي أو الديني والاجتماعي واقتصار العمل وفق ما ترتئيه السلطة وقيادتها وكوادرها وبما يتواقف مع مصالحهم الخاصة.
ونتيجة لتهميش المنظمة وتحجيمها وتآكل مؤسساتها ولجانها وفي ظل توقف المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي واقتصار دور السلطة على التنسيق الأمني وتسيير شؤون الحياة المدنية للفلسطينيين في المناطق التي تقع تحت نفوذها، ومع ما ترتب من تدني وهبوط مكانة المشروع الوطني الفلسطيني من على سلم الأولويات العربية والعالمية على أثر الانقسام بين شقي الوطن، وتعثر العمل العسكري الفلسطيني وتقيده بتوازنات معقدة.
تجرأت أنظمة عربية على فرض نفسها بالقوة والإكراه والترغيب والدبلوماسية على منظمة التحرير والقيادة الفلسطينية، محاولة بكل الوسائل وشتى الطرق التحكم في القرار الفلسطيني وفي مسار القضية الفلسطينية وفرض رؤيتها وأجندتها في حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لتعود بالفلسطينيين وبعد كل هذه السنوات من العمل النضالي بشقيه السياسي والعسكري لنقطة الصفر وحشرهم في زاوية الإملاءات الخارجية.
لم يعد في يد الفلسطينيين الكثير من أوراق القوة والمناورة بل تكاد الساحة السياسية الفلسطينية تفلس وتتلاشى الإرادة الفلسطينية المستقلة، وعليه ووقوفًا أمام المسؤولية الأخلاقية والتبعية التاريخية وَجب على الفلسطينيين بكل ألوانهم وأطيافهم ومرجعياتهم الفكرية والدينية أن يتداركوا الأمر وأن يتجاوزوا خلافاتهم الحزبية ويتنازلوا عن مكاسبهم الفئوية قبل أن تحكم أنظمة عربية متربصة بالفلسطينيين ومتنكرة لقضاياهم العادلة قبضتها على مفاصل القرار الفلسطيني.