دولي
قانون القومية: كم مرة سوف يعلنون قيام إسرائيل؟
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 26 جولية 2018
قُدّم "قانون القومية" الذي أقرّه الكنسيت في القراءة الثالثة يوم 19 تموز/ يوليو 2018، بدايةً في 2011؛ ما يعني أنه "تجوّل" في الأروقة الحزبية والبرلمانية، ونوقش طوال خمسِ سنوات، وأُدخلت عليه تعديلاتٌ، غير جوهرية غالبًا. وتناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية ومؤسسات حقوق الإنسان، وعلّق عليه أساتذة القانون، فضلًا عن نواب البرلمان، عدة مرات خلال هذه الفترة. كانت مبادرة تقديم القانون من النائب عن حزب كاديما، آفي ديختر، الذي شغل في الماضي منصب رئيس الشاباك، وانضمت إليه ثلةٌ من أحزاب اليمين. لكن القانون في النهاية مرّ بعد أن تبنّاه بنيامين نتنياهو شخصيًا بالتحالف مع نفتالي بينيت، رئيس حزب البيت اليهودي، الذي يُمثل تيارًا قوميًا دينيًا، في المجتمع والكنيست، يضع مسألة يهودية الدولة وتجدّد المشروع الصهيوني في سياق استيطاني، كما يضع "مهماتٍ قومية" مثل هذا النوع من التشريعات على رأس جدول أعماله. وتنتمي إلى هذا الحزب أيضًا أييليت شكد، وزيرة القضاء المتطرّفة، المبادِرة بمبادرتها إلى مثل هذه التشريعات؛ إذ قدّمت بنفسها اقتراحًا لـ "قانون القومية". وفي النهاية، وُحّدت اقتراحات القانون، وسُنَّ بعد التعديلات.
سوف أتطرّق في هذه المقالة[1] إلى الصيغة النهائية لهذا القانون وخلفياته، ولن أتعامل مع جميع الصيغ المقترحة التي "لُطِّفَت" في الصيغة الأخيرة لتمويه المكونات العنصرية؛ وذلك لاعتبارات يتعلق أغلبها بالسمعة الدولية، أو للالتفاف على المآخذ القانونية؛ من أجل إرضاء جهاز القضاء الإسرائيلي والمستشار القضائي للحكومة. ومع أن الصيغ تغيّرت مع الوقت بشكل طفيف، فإن الخلفية والدوافع بقيت ذاتها، بلا شك، وظل أصحاب الاقتراح بغاياتهم وأهدافهم هم أنفسهم أيضًا.
تكفي نظرة أولى إلى القانون لتبين أنه، خلافًا لبقية "قوانين الأساس" (أي القوانين الدستورية بحسب التسمية الإسرائيلية، والتي يُفترض أن يشكل مجموعها نوعًا من الدستور أو الإعداد له) لا يشتمل على التعبير الذي تُستَهلّ به جميع تلك القوانين، وهو "إسرائيل بوصفها دولة يهودية وديمقراطية". فكلمة "ديمقراطية" لا تظهر في هذا القانون إطلاقًا؛ إذ إنّ أصحابه ومتبنّيه قرّروا التركيز على الجوهر اليهودي للدولة حصرًا، والتخلي عن العبارة المركّبة "يهودية وديمقراطية"؛ لغاية واضحة ومعلنة ممثلة بالتصدّي لما اعتبروه "إخلال المحكمة العليا بالتوازن" بين المركّبين: اليهودية والديمقراطية، لصالح الديمقراطية. فبحسب رأي مُعدّي القانون ومؤيديه، جرى في كثير من الحالات تفضيل المبادئ الديمقراطية، ولا سيما الحقوق الفردية للمواطنين، على الجوهر اليهودي للدولة، وخصوصًا في بعض قرارات المحكمة العليا التي سمحت، لمواطن عربي، مثلًا، بشراء بيتٍ في مستوطنة يهودية مغلقة، أو التي سمحت لأحزابٍ عربيةٍ بخوض الانتخابات، على الرغم من أنها تدعو إلى أن تكون إسرائيل دولةً لجميع مواطنيها. فتفسير المحكمة للمس بيهودية الدولة كان تفسيرًا ضيقًا جدًا، وكان ينحصر في ارتكاب فعلٍ ملموس ضد وجودها. ولم تكتفِ المحكمة، مثلًا، بالمطالبة بدولة المواطنين، لتعتبر أن مَن يقوم بذلك يخرق قانونًا أساسًا.
وبحسب بعض الكُتّاب اليمينيين في الصحافة الإسرائيلية، تردّد نتنياهو، أو على الأقل اتهمه هؤلاء بالتردد[3] وعدم الحسم لصالح سَنّ القانون؛ خشيةً من الإضرار بصورة إسرائيل في الغرب. وتردّدت مقولاتٌ كثيرةٌ مفادها بأن الجاليات اليهودية في الغرب، والتي يُفترض أن القانون جاء ليخدمها، تحفظت عن القانون في اتصالاتها الداخلية مع القيادات الإسرائيلية؛ وذلك خشية ظهور الدولة التي تتعاطف تلك الجاليات معها، وتدعمها بوصفها دولةً عنصرية تميّز ضد الأقليات، على حد تعبيرها. ويبدو لي أنه إذا صحّ الكلام عن تردّد نتنياهو وغيره من ممثلي اليمين الأكثر براغماتيةً، فإن تجاوز هذا التردّد أصبح مُمكنًا أولًا بسبب الأجواء الإقليمية والدولية. وأقصد بذلك الصعود الملحوظ لخطاب القومية الشعبوية اليمينية في أوروبا، وذلك الخطاب المماثل والأكثر وزنًا وأهميةً الذي تمثله إدارة دونالد ترامب، والذي أحدث انعطافةً في انقسام المواقف في الغرب، بتحويله اللاجئ أو المهاجر أو المسلم، أو غيره، ضد "الآخر"، وبالتشديد على الانغلاق الداخلي ورهاب الأجانب وغيره. ويبدو أن نتنياهو يرى أن مثل هذا القانون لا يُعتبر استثناءً صارخًا في مثل هذه الأجواء الدولية. أما العامل الثاني المتعلق بتوقيت التشريع، بعد خمس سنوات من طرح القانون، فهو التآكل في الموقف العربي من عناصر رئيسة في قضية فلسطين والصراع مع الصهيونية، وتهاون دول عربية مع مثل هذه التشريعات والممارسات الإسرائيلية.
وقد أكد معارضو القانون ومؤيدوه أن عناصر القانون الرئيسة موجودةٌ فيما تسمى وثيقة الاستقلال، مع ملاحظة أن تأكيد المساواة للمواطنين العرب قائم في الوثيقة، وغير قائم في القانون. وإذا كان القانون في غالبية بنوده بياني إعلاني Declarative، فكم مرة سوف يعلن قيام إسرائيل؟[4] ولماذا أسقط القانون الذي يتشبه بوثيقة الاستقلال مبدأ المساواة الوارد فيها (الذي كان في حينه شرطًا لقبول إسرائيل في الأمم المتحدة. ومن هنا، يأتي تأكيده، لفظيًا، من دون تطبيق، في الوثيقة التي "يعشق" اليسار الصهيوني الاستشهاد بها).
تؤكد إسرائيل وجودها، والاعتراف بوجودها، بينما تعرّض هي وجود الآخرين للخطر، وتصرخ أنها ضعيفة كلما ازدادت قوة وسطوة، وتؤكد قانونيًا ضرورة الحفاظ على يهوديتها، لأنها في خطر، بينما تهيمن التوجهات اليهودية المتطرفة، وتتكثف الممارسات والتوجهات الصهيونية لمؤسسات الدولة. لقد أصبحت نزعة التمسكن عند التمكّن، ولعب الفاعل دور الضحية، مكونًا بنيويًا في الثقافة السياسية الإسرائيلية. ولا يمكن فصل سَنّ هذا القانون عن صعود التيارات القومية والقومية - الدينية في إسرائيل والشعبوية البرلمانية على وجه الخصوص، وتراجع دور النخب الليبرالية والعمالية.
لا يتحدث قانون القومية الإسرائيلي، بالطبع، عن قوميةٍ إسرائيلية، بل عن قوميةٍ يهودية، دولة قومية للشعب اليهودي. وهو في غالبية عناصره بياني إعلاني ذو طابع أيديولوجي محض.
وبطبيعة الحال، يؤكد مؤيدو القانون، وقسمٌ كبير من معارضيه على وجه القانون هذا، محاولين التخفيف من وطأته؛ باعتباره لا يحمل إسقاطاتٍ عملية، إضافةً إلى أنه يمكن أن يقبل به أي ليبرالي إسرائيلي[5]. خُذ مثلًا البند الأول من القانون وعنوانه "مبادئ أساسية"، الذي ينص على ما يلي: "1 (أ) أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي التي قامت بها دولة إسرائيل. (ب) دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي التي يحقق فيها حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي في تقرير المصير. (ج) تقتصر ممارسة حق تقرير المصير قوميًا في دولة إسرائيل على الشعب اليهودي".