دولي

الصفقة.. محاولة تجريبية

القلم الفلسطيني

نشط مبعوثون أمريكيون معنيون بالشرق الأوسط الأسبوع الماضي في إجراء اتصالات ببعض دول المنطقة، وإذ لم يرشح شيء عن المواقف الأمريكية وما إذا كانت تحمل جديداً، فقد كان من الواضح أن اختتام الجولة التي قام بها جاريد كوشنر والمبعوث الخاص بالمفاوضات الدولية جيسون غرينبلات، بلقاء مع رئيس حكومة الاحتلال بحضور السفير الأمريكي في "تل أبيب" ديفيد فريدمان، ينطوي على إشارة قوية بأن مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل الاحتلال قد تم تداوله بصورة تفصيلية، وفي إطار مساعي واشنطن لبلورة خطتها التي سميت بـ«صفقة القرن» وهي تسمية تحمل من الضخامة الشيء الكثير، والخشية أن يؤدي الانطباع الذي تثيره الخطة إلى صدمة كبيرة حين تنجلي الأمور وليس ذلك ببعيد الأمد.

فمن ناحية شكلية، فإن صفقة سياسية من هذا النوع وبهذا الحجم، تتطلب أن يكون أصحابها في وضع يسمح لهم بأن يمارسوا ضغوطاً كبيرة على جانبي الصراع، كي يقيض للخطة أن ترى النور. وتشهد خبرة العلاقات الأمريكية مع "تل أبيب" أن واشنطن ضغطت مرتين فقط خلال ستة عقود على حليفتها "تل أبيب"، مرة في العام 1956 حين ضغط الرئيس دوايت ايزنهاور على "تل أبيب" للانسحاب من قطاع غزة بعد العدوان الثلاثي على مصر. ومرة ثانية وبعد مضي 34 عاماً حين ضغط الرئيس بوش الأب على رئيس الوزراء اسحق شامير من أجل المشاركة في مفاوضات مدريد بمشاركة منظمة التحرير. وحين قبل شامير على مضض المشاركة قال قولته الشهيرة بأنه سيجري مفاوضات لا نهاية لها كي لا تصل إلى نتيجة ملموسة. لكن الدبلوماسية السرية الأوروبية والأمريكية رتبت بعدئذ مفاوضات أوسلو في أواخر العام 1992، وهو الاتفاق الذي تنصل منه بعدئذ ارييل شارون ثم يهود أولمرت وصولاً إلى بنيامين نتنياهو.

بمنطق الصفقات أهدى الرئيس ترمب القدس المحتلة إلى الاحتلال، على أمل أن يقبض ليونة كبيرة مقابل هذه الهدية الكبيرة. وتتحدث صحيفة هآرتس (الخميس 22 يونيو) عن ملامح للصفقة تتضمن مزيداً من الهدايا: بقاء القدس القديمة (قلب شرقي القدس التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية) تحت سيطرة الاحتلال، وبقاء المستوطنات الكبيرة حول القدس وفي مناطق أخرى، وبقاء منطقة الغور على الحدود مع الأردن تحت سلطة الاحتلال. وهذه الخطة هي في واقع الأمر ذات مضمون «إسرائيلي»، ويصعب إلى حد بعيد وصفها بأنها عرض من طرف ثالث. إذ إنها ترمي إلى إدامة الوضع القائم (الحكم الذاتي) مع تسميته دولة منزوعة السلاح والسيادة. والمشكلة أن الإدارة الأمريكية تبحث عن حل يمكن أن يرضى به حليفها في "تل أبيب"، وليس عن حل يستجيب للشرعية الدولية ولقرارات الأمم المتحدة ومواقف الأسرة الدولية.

منذ أيام يقوم وفد أميركي بجولة في المنطقة العربية، ويتألف الوفد من مبعوث ترمب للشرق الأوسط جيسون غرينبلات، وجاريد كوشنر صهر الرئيس ترمب ومستشاره. وقد زار الوفد عدة دول عربية، والتقى بالعديد من المسؤولين، ولم تصدر -حتى اللحظة- بيانات رسمية واضحة حول نتائج الجولة التي لم يغب عن جدول أعمالها ملف قطاع غزة، وتحدثت الأنباء عن مساعٍ أميركية لحل الأزمات الإنسانية في القطاع، أو التخفيف منها.

صحيح أن الأزمات الإنسانية ازدادت في التفاقم خلال الشهور الأخيرة، إلا أنها موجودة منذ ما يزيد عن 12 عاماً، ومن غير المنطقي تخيل ظهور صحوة ضمير إنسانية دولية مفاجئة، إلا أن حراك غزة، ومظاهراتها، وبلالينها الحارقة، أمور ساهمت في إعادتها إلى الواجهة، لتكون -على ما يبدو- «غزة أولاً» على الأقل إعلامياً، أو في ما يتم تسريبه من أنباء حول «صفقة القرن»، أو خطط التصفية الحالية.

جرى تجويع الناس في غزة، وخنقهم بالأزمات بوتيرة مرتفعة خلال الشهور الماضية، تمهيداً لإخضاعهم وتدجينهم، وحصر تفكيرهم بلقمة العيش، ودفعهم إلى التسليم تحت الضغط بمخططات تصفوية. غزة كانت -وما زالت- معضلة لصناع القرار الصهاينة، وتمنى بعضهم أن يبتلعها البحر، ويُراد اليوم لها أن تُبتلع من سيناء تدريجياً، حسب المقترح القديم الحديث للجنرال الصهيوني «غيورا إيلاند»، الذي يتحدث عن دولة فلسطينية تمتد من قطاع غزة إلى سيناء.

ملامح عودة طرح هذا المقترح مجدداً تبدو من خلال ازدياد الحديث في الأوساط الصهيونية عن توظيف الحالة الإنسانية في غزة كمدخل لتنفيذ هكذا مقترح، عبر تدشين ميناء ومطار لقطاع غزة في سيناء، وإنشاء مشاريع استثمارية وتنموية، ومنطقة حرة في تلك المنطقة شبه الخالية من السكان حالياً، بعد العمليات الواسعة للجيش المصري فيها خلال السنوات الأخيرة التي شهدت العديد من العمليات التفجيرية لمجموعات «داعش».

الكثير من التعقيدات حول المشهد في سيناء هناك، لكن ثمة مصلحة إسرائيلية كبيرة في تعقد أوضاع تلك المنطقة، وحتى لو حصلت غزة على مشاريع تخفف من معاناتها، فمن يضمن سلامتها من هذه الجماعات المجهولة، وما شابهها، وهل سيكون هذا الحل بوابة لمشكلات جديدة للفلسطينيين؟ ضغوط أميركية كبيرة من أجل إيقاف أنشطة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، وهو ما أسفر عن تراجع كبير في عملها، الأمر الذي يؤثر سلباً على مجمل قضية اللاجئين، وعلى قطاع غزة، الذي أكثر من نصف سكانه من اللاجئين.

وخلال الأيام الماضية، أصدر الاحتلال الأمر 1798، الذي لم يحظَ باهتمام كبير، رغم خطورته الكبيرة، باعتباره خطوة على طريق تفريغ الفلسطينيين من الغالبية العظمى من أراضي الضفة المحتلة التي تفوق مساحتها أضعاف المرات مساحة قطاع غزة، وفي القدس يحاول الاحتلال منذ أسابيع فرض سيطرته على منطقة باب الرحمة في محيط وداخل المسجد الأقصى المبارك، وهو تطور كبير باتجاه التقسيم المكاني للمسجد المقدس.

يتضح لنا أن مناقشة مشكلة غزة ومحاولة وضع حلول إسعافية مؤقتة لمشكلاتها، لا يتسق مع تقليص «الأونروا» لعملياتها، ولا مع مشاريع الضم والاستيطان الكبيرة في الضفة، والقوانين العنصرية التي أصدرها الاحتلال خلال الشهور والأسابيع الماضية، وهو عبارة عن مسعى تضليلي تخديري وتضليلي، لتمرير ما يمكن تمريره من مخططات التصفية في بقية مناطق فلسطين. وكالعادة، التعويل على غزة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وطنياً، مع أن المخططات تستهدف كل فلسطين والفلسطينيين، وتستهدف أيضاً مصر وسيادتها، ومقدسات وعقيدة الأمة جمعاء.

محمود الريماوي

من نفس القسم دولي