دولي
نكبتان.. وثالثة الأثافي
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 18 جوان 2018
ليست مصادفةً أن يُصبحَ المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، النجمَ الإعلاميَّ المفضّل لدى بعضهم. إنه يتّسمُ بأسلوبٍ مميّزٍ تجعلهُ أقربَ إلى الممثّلِ في "هوليوود" منه إلى الضابطِ في جيشِ دولةٍ عنصريّة، فطريقتهُ في الكلام والمواضيع التي يختارُها، والسخريةُ التي يبديها أحيانا من بعض وسائل الإعلام العربية، أو من مسؤولين أو مواقف، إضافة إلى أصول أجداده المشرقيّة (العراقيّة والتركيّة)، تجعلهُ أقربَ إلى سحنةِ أبناءِ العمومةِ العرب من جهة، وأقربَ إلى فهمِ العقليّةِ العربيّةِ في التفكير. فها هو في أوّل أيامِ رمضان يتناولُ طعامَ الإفطارِ مع الجنودِ المسلمينَ في الجيش الإسرائيلي على حدود غزّة، ضمنَ برنامجٍ دعائيٍّ احترافيّ الصنعةِ والإخراج. ليس مُستغرباً أن تتمّ الاستفادةُ من ملكاتٍ كهذه في دولةٍ تخصّصُ من ميزانيّتها 4% من ناتج الدخل القومي للبحث العلمي، على الرغم من أنّها تقومُ على مبدأ نفي الآخر، المختلف كلّياً كالفلسطينيين، والآخر المختلف جزئياً كاليهود الشرقيين ويهود الفلاشا، فهي دولة تقوم على الجيش أولاً، وعلى الحرب ثانياً، ولكن ضمن إطار مختلف عمّا عهدناه في بلداننا. الجيش في إسرائيل عمود الدولة الأساس وخادمها، ووظيفته الحفاظُ عليها في مواجهة الأعداء الخارجيين، بينما الدولة في بلداننا عمود الجيش وخادمته، ولا وظيفة للجيش سوى حماية أنظمة الحكم من الأعداء الداخليين، أي من الشعوب.
ليس أفيخاي أدرعي بتلك الأهميّة، لتتمّ دراسته بشكل معمّق، لكنّه عنوانٌ أو مثالٌ لواقع إشكالي، يعطي مؤشّراً عن سلوك مجتمعيّ مضطرب، ناتج عن فقدان البوصلة الوطنيّة، أو على الأقل تشوهها بسبب حجم الضغط الهائل الذي تتعرّض له مجتمعاتنا العربية المعاصرة منذ فترة طويلة، وخصوصا في العقود الثلاثة الماضية. يتمثّلُ الإشكال الذي يحتاجُ فعلاً إلى دراسة معمّقة بمبدأ المفاضلة بالسوء، أو الاصطفاف خلف عدوّ ما، لأنه أقلّ سوءًا من عدوّ آخر، أو انتظار الخلاص على يديه في أقلّ تقديرٍ وتوقّع.
ما بين الاستبداد الداخلي الذي أهدر كلّ مفاهيم الوطنيّة والمواطنة، واستباح جميع القيم والحقوق والحريّات، وبين الاستعمار الخارجي، بصيغه الاستيطانيّة القائمة على البعدين، القومي العرقي والديني (المشروع الصهيوني) والقومي الطائفي المذهبي (المشروع الفارسي)، باتَ المواطن العربي عموماً، والسوريّ خصوصاً، نهباً لصراعاتٍ أضاع فيها كثيرون الاتجاه الحقّ.
وباعتبار أنّ القضيّة الفلسطينيّة كانت وما زالت حاضرةً في خطاب الأنظمة العربية عموماً، والنظام السوري خصوصاً، منذ قيام دولة إسرائيل، وستبقى كذلك، ما بقيت الأنظمة وإسرائيل، لا بدّ من تفنيد الحجّة التي يبرّر فيها نظامُ الممانعة قتل السوريين، باعتبارهم العقبة أمام تحرير القدس.
تمثّلت النكبة الأولى في زراعة إسرائيل ونموها، باعتبارها واحة للديمقراطيّة المحليّة، لفئةٍ محددة من سكان الدولة، في محيطٍ قاحلٍ من صحراء الديكتاتوريات العربية. وتمثّلت النكبة الثانية في أن وجود إسرائيل كان أحد الأسباب الرئيسة لوجود الاستبداد الداخلي في أنظمة الحكم في بلداننا، وبالتالي استدامة التخلّف في مجتمعاتنا العربية، ومن ثم تحوّل إلى شرطٍ لاستمرار هذا الاستبداد وتجذّره. ولا تغربُ عن البال الرابطة الجدليّة، ذات العلاقة المتعدّية بين طرفي السوء، المتصارعين نظريّاً وعلناً، المتحالفين عمليّاً وسرّاً (إسرائيل والأنظمة العربية)، التي ما فتئت تكبر وتتشابك وتتعقّد.
ثمّ كانت ثالثةُ الأثافي، بعد ثورات الربيع العربي، تلك الحالة من الاستقواء بالخارج المطلق، أياً كان هذا الخارج، أخاً ابن عم جاراً، أو حتى عدوّاً مبينا، فقد بدأ الأمر على سبيل طلب الحماية الدولية من إجرام أنظمة متوحّشة، كنظامي معمر القذّافي في ليبيا وبشار الأسد في سورية، لكنّه انتهى بتبعيّة الأنظمة، أو ما تبقّى منها، وتبعيّة القيادات العسكريّة والسياسية التي تنطّحت لقيادة الثورات الشعبيّة ضدّ هذه الأنظمة.
وهكذا أصبح السوريّ مثلاً يتفرّج على الصراع الدائر بين القوى الإقليميّة بالذات وبالواسطة والقوى الكبرى بالوكالة في بلده، كالمشاهد القابع على درجات المسرح، يتلقّى الأحداث، ولا يشارك فيها. ومع التمييز الذي لا غنى عنه بين الموالي أو الشبّيح الذي يطرب لدكّ المدارس والمخابز والمشافي والمساكن على رؤوس الأطفال والمرضى والمدنيين، بطائرات الحليف الروسي، والمعارض أو الثائر الذي يفرح لقصف المواقع العسكريّة، الإيرانية منها وتلك التابعة للنظام، فإنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بشكل طبيعي: لماذا وصلنا إلى هذا الحال؟
يغيب عن أذهان بعض الأشخاص أنّ إسرائيل لم تقصف يوماً أية ثكنةٍ عسكريّةٍ، كانت تنطلق من مرابض مدفعيتها حِمَمُ الموت على القرى والمدن السوريّة الثائر أهلها، بل اكتفت بقصف ما يمكن أن يشكّل خطراً عليها في المستقبل، ولو بنسبة واحد بالألف. وبالتالي يظنّون أن الجيش الإسرائيلي سيكون المخلّص لهم من هذا العذاب المستمر منذ سنوات، أو من الاحتلال الإيراني الجاثم على الصدور. في المقابل، غاب عمّن هللّوا وصفّقوا لقنابل بوتين وصواريخه الغبيّة أنّ ذلك لم يكن لسواد عيونهم، ولا لزرقة عيون رئيسهم، بل لمصالح وغايات أخرى، آخر همّها هؤلاء السذّج.
ما يحتاج إلى إعلان واضح وصريح أنّ أحلامَ الشعوب لا تحققها الأماني، بل العمل، وأنّ ميدان الأخلاق بعيدٌ جدّاً عن ميدان السياسة والمصالح، فلن يكترث أحدٌ لمأساتنا، مهما تماهينا معه، ومهما تبعنا رغباته، وحققنا مصالحه.
علينا أن ننظر في مرآة أنفسنا، وأن نسأل ذواتنا: ماذا قدّمنا لقضيّتنا ووطننا، لا ماذا قدّمت لنا هذه القضية وهذا الوطن. علينا أن نعرف أنّ عدوّنا يبقى عدواً، وإن كنّا نحسب أنّه، في غمرة تناقض المصالح مع عدوّ آخر، بات صديقاً، وكما يقول المثلُ العاميّ "عدوّ جدّك ما بودّك". وأفيخاي أدرعي لن يودّنا، مهما كان أسلوبه مشوّقاً، ومهما أطنب في مدحنا، أو بكى معنا، ويبقى أن ندرك أننا قادرون دوماً على النهوض من كبوتنا إذا ما أردنا.
حسان الأسود