دولي

مسيرات العودة الفلسطينية.. رؤية تقويمية

القلم الفلسطيني

بعد مرور ستة أسابيع على انطلاق مسيرات العودة، من قطاع غزة في المقام الأول، وبدرجة أقل اتساعاً في الضفة الغربية، وعلى نحو شديد التواضع في مناطق اللجوء في الخارج، مرّ ما يكفي من الوقت، وتضافرت حقائق ومظاهر عديدة، وتباينت المواقف والآراء حيال هذا المشهد الكفاحي المثير للاعتزاز، على نحو بات يسمح الآن بإجراء تقويم موضوعي لهذه الفعالية الشعبية النادرة في الحياة السياسية الفلسطينية، المقدّر لها أن تبلغ ذروتها القصوى في ذكرى يوم النكبة، منتصف شهر مايو/ أيار الجاري، ومن ثمّة القيام بعملية مراجعة تقويمية، ليس لهذه الفكرة الملهمة، وإنما لما تخللها من عوارض جانبية سلبية، أحسب أنه لم يفت بعد زمن معالجتها بذهنية نقدية.

في بداية الأمر، برزت مسيرات العودة هذه كابتكار نضالي فلسطيني يحاكي، بطريقة مختلفة، إبداع انتفاضة الحجارة المجيدة عام 1987، يجدّد الهمم، ويستكمل الهبات الجماهيرية المتفرقة في الضفة الغربية، ويرقى بها إلى نقطة تحول منشودة، ويعد فوق ذلك ببعث الحراك الشعبي على أوسع نطاق ممكن في عموم الأراضي المحتلة، ويعيد الاهتمامات العربية والدولية بالقضية الفلسطينية، ناهيك عما ينطوي عليه هذا الفعل المنظم من رد سياسي واضح على ما تسمى صفقة القرن، وما يشتمل عليه من رسائل تخاطب كل من يعنيهم الأمر؛ أن الشعب الفلسطيني لا يزال، على الرغم من كل ما تعرّض له، قادر على مواصلة الاشتباك مع الاحتلال بكل الوسائل والسبل الممكنة.

ولعل أنبل ما أظهرته مسيرات العودة، في أسابيعها الأولى، أنها بدت رافعة كبرى من روافع إنهاء الخلاف الداخلي واستعادة الوحدة الوطنية، ولاحت فرصة سانحة لتجسير الهوة بين طرفي الانقسام، وردّت الاعتبار في الوقت ذاته إلى مفهوم المقاومة الشعبية، ذلك المفهوم الذي تم نبذه، بل واحتقاره بشدة، من قوىً كانت ترى فيه غضاضة وليونةً غير مستحبة. ولعل اختفاء الرايات الفصائلية من سماء هذه المسيرات، التي بدأت حاشدة فعلاً في الأسبوعين الأولين، كان يبشّر بمرحلة جديدة في العمل الوطني المقاوم، المتلائم مع مقتضيات المرحلة الراهنة، عماده وحدة في الشعارات والسبل والأهداف، وتغييباً للذات الفصائلية المتضخمة بحب الظهور وتصدر المشهد العام، الأمر الذي أشاع روحاً تفيض بالعافية الوطنية، ودعا إلى التفاؤل وعقد الرهانات على ما قد تتمخض عنه هذه المسيرات في الأجل الطويل.

ومع أن الراية الوحيدة التي بقيت تظلل هذه المسيرات إلى اليوم، هي الراية الفلسطينية فقط، إلا أن هذا المظهر الصحي لم يعد قادراً، في وقت لاحق، على حجب حقيقة تواري اللجنة التنسيقية العليا لمسيرات العودة فجأة، واستيلاء قوىً سياسية بعينها على المشهد بالكامل، وتجييره لصالح أجندة فئوية خاصة، وهي قوى وجدت في هذه المسيرات ضالتها المنشودة، للتغطية أساساً على فشلها الذريع في إدارة القطاع المحاصر، ولصرف الأنظار عن محاولة اغتيال رئيس الحكومة الفلسطينية، رامي الحمد الله، وتنفيس الاحتقان الداخلي الناجم عن تفاقم المشكلات المعيشية، لا سيما بعد استفحال أزمة الرواتب، فضلاً عن انغلاق الدروب السياسية أمام تجربة حكم ممسوك بقبضة أمنية صارمة، وحدث ولا حرج عن انعدام الخيارات والبدائل والممكنات.

كانت إسرائيل قد ادّعت، منذ بداية هذه المسيرات، أن حركة حماس تقف وراء هذا التحرك الذي يبطن غير ما يظهر، وزعمت أنه شكل من أشكال الإرهاب الذي يحاربه العالم من دون هوادة، وذلك لإضعاف مغزى ومعنى الطابع المدني السلمي لأوسع حراك جماهيري من نوعه، يقوم به اللاجئون الفلسطينيون طلباً لحق العودة، وهو زعم سوّغت فيه دولة الاحتلال لنفسها استخدام قوةٍ مفرطة، أودت بحيوات عشرات وجرح مئات من المتظاهرين، ثم راحت تهدد فيما بعد بمزيد من القوة النارية، وإيقاع أعداد اكبر من الضحايا على الحاجز الشائك، حتى أنها توعدت باستهداف قادة حركة حماس، إذا تواصلت المسيرات وخرجت عن السيطرة.

لم يمضِ سوى وقت قصير على انطلاق هذه المسيرات، حتى أتت الحركة القابضة على الزمام في قطاع غزة، لتعطي المزاعم الإسرائيلية كل ما كانت تشتهيه من أدلة وقرائن على وقوف "حماس" خلف هذه الحركة الجماهيرية الواعدة، وذلك حين اندفع قادة هذه الحركة إلى التجول بين المتظاهرين، وإبراز أنفسهم قوة متصدرة ومتحكمة في مجرى نهر هذه المسيرات، ثم أخذوا يوزعون التعويضات المالية على الجرحى وذوي الشهداء، خصوصا بعد أن خفتت وتيرة المشاركات، وكادت تتلاشى في الضفة الغربية، وافتقرت للتفاعل بين الفلسطينيين في الشتات، وفوق ذلك كله رفع هؤلاء القادة سقف أهداف هذا الفعل الوطني المبني على التراكم وطول النفس، إلى حد القول إن الغاية من هذه المسيرات هي تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أو الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه على أقل تقدير.

وزاد الموقف تشوشاً، وخصم من مشهد المسيرات الحضاري هذا، الباعث على أفضل الانطباعات وأشدها إيجابية، السماح للمتظاهرين، أو ربما تشجيعهم، على الإتيان بأفعالٍ لا تخدم بالضرورة الصورة المنشودة من رفع مطلب حق العودة الصائب تماماً، والإلحاح به على مسامع كل المخاطبين بهذا الحراك غير المسبوق، وأبرزها (كما يعتقد أصدقاء للشعب الفلسطيني) إشعال النار في الإطارات المستعملة، الذي صفق له بعض منا في غمرة الحماسة المفرطة، وكذلك إرسال الطائرات الورقية المحملة بالوقود لإحراق أشجار على الطرف المقابل، وغير ذلك من وقائع صبت كلها في خدمة الرواية الإسرائيلية الرائجة عن هذه المسيرات، ووجدت مع الأسف من يقبل بها في أوساط الرأي العام الغربي، المستهدف إيقاظ ضميره النائم بمسيرات حق العودة.

وهكذا، سيكون من المحبط تماماً أن نصل الى ذكرى النكبة بعد أيام معدودات، وهو الموعد المعول عليه لحدوث اختراق ما في الجدار، من غير أن تسترد هذه المسيرات التي بدت تحركا شعبيا تقوده قوى المجتمع المدني زخمها الجماهيري الواسع، وطابعها العفوي الأول، كفعل وطني مجرّد من الغايات الفصائلية الضيقة، وهو أمر يتطلب من دون ريب إجراء إعادة تقدير جديد للموقف، ومراجعة ما علق بالمشهد الكلي من سلبيات متفرقة، تلك السلبيات التي طفت على السطح أخيرا، جراء الاستسلام للانفعالات المترسبة، وتأجج العواطف الملتهبة، أو ربما بفعل استعجال النتائج الشحيحة المبكرة، وقطف الثمرات قبل أن تنضج، الأمر الذي ينبغي معه إعادة تصويب البوصلة، وعقلنة الشعارات، وترشيد الخطاب، والتواضع في رسم أهداف هذه المسيرات التي قد يتم تقويضها بحسن نية، وإهدارها في خضم المنافسات الداخلية الصغيرة.

وأحسب أن الموقف المسؤول يتطلب، قبل أي شيء آخر، تسلّم لجنة التنسيق العليا زمام المبادرة من جديد، وهي لجنة تضم هيئاتٍ حقوقيةً ومنظمات مجتمع مدني ومثقفين وطنيين وشخصيات اعتبارية وازنة، والسماح لها بقيادة الدفة مرة أخرى، عبر استرداد تلك الأشكال الكفاحية المبتكرة غداة انطلاق هذه الحراك الوطني الرائع، بما في ذلك إعادة إنتاج مشاهد مشاركة عائلات بأكملها في الفعاليات الاحتجاجية، رجالاً وأطفالاً ونساءً، وإقامة المعارض الفنية، والرسم والقراءة، وعقد حلقات الدبكة الشعبية، وغير ذلك من الصور البديعة التي يسّرت انخراط مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية في هذه المسيرات التي أخذ منحناها البياني يهبط كل أسبوع عما قبله، وهو وضع يدعو كل من يعنيه مشهد يوم العودة الوشيك إلى سرعة التحرّك من دون أدنى تردّد.

عيسى الشعيبي

 

من نفس القسم دولي