دولي

النخبة السياسية الفلسطينية وإدمان الفشل

القلم الفلسطيني

يعاني الفلسطينيون اليوم من هيمنة نخبة سياسية تدمن الفشل، تبرز بالذات بعد ربع قرنٍ على توقيع اتفاقية أوسلو، وأكثر من عشرة أعوامٍ على الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة. أسباب عديدة، بعضها مرتبط بعوامل داخلية (الفساد، والسلطويّة، والتبعية)، وبعضها مرتبط بعوامل خارجية (نُطلق عليه هنا، "هستيريا" الارتهان لقوى دولية وإقليمية، منها أنظمة الاستبداد العربي). وقد دفعت هذه الأسباب النخبة السياسية الفلسطينية إلى إدمان هذا الفشل، ونقل العدوى إلى جلّ الحالة الفلسطينية، من نخب سياسية وغير سياسية، وتنظيمات ومعارضة وقادة وشباب وفعاليات سياسية واجتماعية ونقابية. 

نجحت "أوسلو" عمليًا في تأجيل حسم القضايا الجوهرية في الصراع العربي - الإسرائيلي، وأبقت القضايا المتفق عليها في صيغة عامة. في المجمل، حصل الفلسطينيون على "حكم ذاتي" غير متفق على شكله وإطاره وتعريفه، وحصل الإسرائيليون على شرعية للمناطق المحتلة، بما فيها المستوطنات الأساسية. المهم هنا، أن لا يُسمح لمناطق "الحكم الذاتي" بالحصول على سيادة مستقلة، وطبعًا أن تفاوض إسرائيل الفلسطينيين، بدءًا بنشر الجيش الإسرائيلي وحماية المناطق المحتلة والمستوطنات، وانتهاءً بالتنسيق الأمني والاقتصادي. في المحصلة، تورّط الفلسطينيون في المفاوضات طوال ربع القرن الماضي، باعتبارها أفضل  السبل للوصول إلى حل أزمة المأزوم، وتنفيذ تسوية سياسية للقضية الفلسطينية لإقامة "دولة فلسطينية" على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، ولتحقيق ذلك، سعت النخبة السياسية إلى ترويج هذا الحلّ المختزل على أنه حلٌّ وطني، يحظى بقبول الفلسطينيين.

دعمت النخبة السياسية المرتبطة مباشرةً بالسلطة الفلسطينية هذا الخيار مبكرًا، أملًا منهم في الوصول إلى تسوية سياسية تعطي الفلسطينيين "دولة" في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. ودعمت النخبة اليسارية طموحات السلطة الفلسطينية؛ وإن عارضتها مبكرًا، أملًا منهم أيضًا في الحصول على الاستقلال وإعلان "الدولة الفلسطينية". ووقفت نخب الحركات الإسلامية أمام هذه الطموحات "الدولاتية"، وأكدت بطلان هذا الاتفاق، كونه أعطى الاحتلال الحق في سرقة ونهب أرض فلسطين التاريخية، وذلك قبل أن يتغير موقع بعضها من المعارضة إلى عمق السلطة الفلسطينية، ومن رفض الانتخابات إلى المشاركة فيها. ولعل القاسم المشترك لهذه النخبة، من جهة سموّ "البيروقراطية" المرتبطة بمؤسسات السلطة الفلسطينية، ومن جهة ثانية ولادة جمعيات ومنظمات غير حكومية، وتحت شعارات المجتمع المدني، ومتوافقةً مع شروط ممولي المانحين الدوليين. في المجمل، أدت هذه الحالة دورًا في ولادة نخب "تكنوقراط" جديدة، عوضًا عن ولادة نخب تستثمر في تاريخها وحاضرها النضالي ضد المحتل وسياساته. وفي ضوء ذلك، برزت نخبةٌ سياسيةٌ فلسطينية تتقاطع مصالحها مع السلطة الفلسطينية، وهذا دلل على أن "أوسلو" دفعت نخباً سياسية عملت على إعادة تنظيم سلطة الاحتلال بدلًا من انسحابها. 

وقعت النخب السياسية الفلسطينية جميعها في مسار "أوسلو"، خلال ربع القرن الماضي، وتورّطت فيه بشكل مقصود أو غير مقصود. وقَبِلَ قطاع واسع من النخب السياسية مسار السلطة الفلسطينية، وحصل عديدون منهم على مناصب حكومية، على الرغم من معارضتهم السلطة وسياساتها، ومن بين هذه النخب من يتبعون لبعض التنظيمات اليسارية والإسلامية. أما عن بعض النخب السياسية التي بقيت خارج إطار الانتفاع من السلطة الفلسطينية، أضحت الحالة اليوم بالنسبة لنا أوضح، فهذه النخب السياسية ما زالت تتبنّى (وتدعم) خيارات المشروع السياسي للسلطة الفلسطينية والقائم على "حل الدولتين"، والذي لا يعقِلُ أحدٌ على وصفه إلا بالمشروع المستحيل. 

أضحت النخبة السياسية تكريسًا حقيقيًا للحالة الاستعمارية في فلسطين، لا سيما أن ما مثلته "أوسلو" ضمان حقيقي يعكس الانتقال في البنية الاستعمارية من مبدأ الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، إذ لا تعني الأخيرة إنهاء السيطرة على الفلسطينيين، بل استبداله من نظام قائم على إدارة حياة السكان إلى نظام لم يعد مهتمًا بهم. وفي المحصلة، لم تعد إسرائيل تقدم أي نوع من الحساب للظروف التي يعيشها الفلسطينيون، وكذلك لم تسع النخب السياسية للبحث عن مخرجٍ من مأزقها السياسي الذي تورطت فيه. وفي مقابل ذلك، وعلى الرغم من معارضة بعض النخب السياسية هذا المسار؛ وإن انتهى ذلك اليوم، إلا أن هذه المعارضة بقيت شكليّةً، وبلا جدوى حقيقية لتحدي الواقع المأزوم على الأرض. 

لم يؤدّ مسار "أوسلو" إلى تفريغ النخب السياسية من رصيدها النضالي فحسب، بل ما يلفت النظر في الحالة الفلسطينية اليوم هو الغياب الملحوظ "للبديل الفلسطيني"، وعدم ارتقائه إلى الدور الحقيقي المنوط به. فمنظمة التحرير؛ الإطار التمثيلي للفلسطينيين، باتت أجندة سياسية تخدم مصالح السلطة الفلسطينية وأفرادها ونخبها. وكذلك بالنسبة للبدائل الأخرى، والتي لم تصل بعد إلى مستوى نخبٍ سياسيةٍ قادرة على تأسيس بديل فلسطيني يتبنى مشروعا وطنيا فلسطينيا نضاليا وديمقراطيا، يقوم على حل الدولة الواحدة. وقد يبدو الوضع الفلسطيني في الوقت الراهن نتاج وضع إقليمي أو دولي متقلب، إلا أن الوقائع على الأرض؛ بتضاعف معدلات الاستيطان أربع مرات وعدد المستوطنين سبع مرات وسيطرة إسرائيل على 85% من الأرض التاريخية منذ "أوسلو"، تفيد بأن الأزمة التي تراكمت على مدار ربع القرن الماضي تستوجب وقفة فلسطينية، وإلا سيفتح ذلك مزيدا من الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الفلسطينيين كأمر واقع. 

استوحى كاتب هذا المقال عنوانه من مجلد مرجعي مهم قدمه السوداني منصور خالد، "النخبة  السودانية وإدمان الفشل". والمُلفت للانتباه أن الكتاب لا يصلُح فقط لفهم الأزمة السودانية، إنما يعطي القارئ مساحةً لفهم أزمة تعاقب الأنظمة الفاشلة على البلدان العربية، لا سيما نخب هذه البلدان وقادتها وأحزابها ومعارضتها. وبما يتعلق بحالتنا الفلسطينية، فإن أزمة النخب السياسية وابتعادها عن تأسيس واقع حقيقي يناهض ويتحدى الوقائع الاستعمارية على الأرض، فتح المجال لتأزيم الوضع الراهن. وهذا يعني، إن كان "غياب الأمن يصنع الفوضى وغياب العدل يصنع الثورة"، فحالتنا تفيد بأن غياب النخب السائدة لم يصنع نخبًا بديلة، ولكن غيابهم معًا صنع الهزيمة.

في المجمل، لا يعني التأمل السلبي في الوقائع السياسية الجارية أمام أعيننا بعدم وجود تفكير جدلي حقيقي نحو التحرّر، لكن الحل الوحيد الواقعي والتاريخي العادل لم يجد مكانه بين النخب السياسية. وهذا يوجب على النخب السياسية الفلسطينية اليوم أن تفتح المجال للنضال ضد الوضع الراهن. وكذلك السماح للفلسطيني، أينما كان، بأن يعيد قراءته الأزمة الراهنة التي تواجه حقه في تقرير مصيره. كما على هذه النخب، إن لم تكن قادرةً على صياغة مشروع وطني فلسطيني، أن تعطي الفلسطينيين الحق في صياغة مشروعهم من أجل استبدال فشل المشروع القائم على "حل الدولتين" بمشروعٍ آخر بديل، من الممكن أن يصنع التحرّر.

إيهاب محارمة

 

من نفس القسم دولي