دولي

مِن غزة إلى دوما.. مَن يزاود؟

القلم الفلسطيني

انفلات، دوليا وقانونيا، وتجرُّؤ، حتى المُزاوَدة، من الأطراف المرتكبة تلك الفظائع، في غزة المحاصَرة، منذ ما يربو على عقدٍ، وهي الأكثر اكتظاظا، في العالم، إلى دوما في الغوطة الشرقية المحاصَرة هي الأخرى منذ نحو خمس سنوات، والمُصطلية، وسائر مدن الشام، بذاك التدمير الذي لم يتوقف عند البنى السطحية والمعيشية والديمغرافية، بل طاولها إلى البنى الاجتماعية والنفسية. 

لا يتوقف جيش الاحتلال في فلسطين عن التباهي بأخلاقيته (وكيف سبيله إليها، وهو أداةٌ لقهر شعب آخر، وللسَّطْو على وجوده، واستلاب مصير أبنائه؟) وجيش الأسد هو كذلك لا نعلم من أين يكتسب دعايته المُزيَّفة، (ولا بدَّ لأيّ رواية، أو ديباجة أنْ تتآكل، أمام الوقائع العِيانيَّة عن أيلولة سورية إلى هذا المصير الذي فقدت معه سيادتَها، ولأكثر من طرف دولي، وإقليمي). 

صحيحٌ، أنه وفق القانون الدولي، تمتلك الدولة حقَّ السيادة على بلدها، ويُمنَع التدخُّل الخارجي في شؤونها، من دون موافقتها، لكن ذلك إلى حدٍّ، أو حدود، فمَن يعجَز عن حماية شعبه، ومن يعجز عن أن يكون مرجعية آمِنة لكلِّ مواطنيه، أمام قانون واحد، بل من يصبح هو أكبر مُهدِّد مباشر لشعبه، يكون هو الذي عرَّضَ بلدَه لفقدان السيادة، فضلا عن ملابسات وصول الأسد الابن (بعد الوالد) إلى السلطة، بطريقةٍ فوقيةٍ، لا تقف عند موافقة الشعب، أو حتى رأيه، ثم هو يعجز عن رأب الصدع الكبير والعميق الذي أُمهِل لعلاجه، عمليا، سنة وراء سنة، من دون نجاح، إلا باتفاقيات التهجير، وإخلاء المناطق مِن أهلها، بعد حرقها، وتجويعها، فقد بات أقرب بالفعل، إلى قوة احتلال، ليست آمنة على البلاد، وليست مرجعية كلية جامعة للشعب السوري، على اختلاف مواقفه، ومُكوِّناته. 

إسرائيل دولة الاحتلال الصارخ في العالم اليوم، والتي تزداد عنصرية واستهتارا، بما يقوله  العالم عنها، باتت أكثر اندفاعا واطمئنانا إلى وجبات القتل اليوميِّ، تجاه الفلسطينيين، لاسيما في قطاع غزة، تقتل على الهواء مباشرة، وتتعمّد القتل، وبأعداد كبيرة. لا بدَّ أنها تزدهي بجرائم الأسد، وهو يقتل، مثلها، أبرياءَ مدنيين، أطفالا ونساء، عائلات بأكملها، وجديدها بالغازات السامّة (قُتل أكثر من 150 مدنيًّا، وأُصيب أكثر من ألف آخرين، بينهم نساء وأطفال، بحالات اختناق، حتى مساء السبت الفائت) ليس من شعبٍ مُحتلّ، لا يكترث إن لم يصدّقه أحد في ادّعائه أنه يتقاضى أجرا من جماعات معادية (كحركة حماس)، بل من شعبه هو على مقربة من العاصمة دمشق، يدّعي أنه بكليَّته أصبح جماعات إرهابية تكفيرية(!) 

نعم، فلا يهمُّ الاحتلال الإسرائيلي، كثيرا، أنْ لا يصدّق الشعبُ الفلسطينيُّ المحتلّ كَذِبَه، واتهامه بأنه يبيع أرواح أبنائه، مقابل حفنة من الدولارات، تدفعه حماس، وكأنّ أهل غزة ينقصهم الدافع الذاتي لمواجهة هذا الخَنْق والتَّيئيس الذي للأسف لا تنفرد إسرائيل في مواصلته، بل تشاركها مصر، عبر الإغلاقات المُتكرِّرة لمَعْبَر رفح المَنْفَذ الوحيد للقطاع، وتُهدّد السلطة الفلسطينية  بإجراءات عقابية إضافية ستنعكس سلبا، على مجمل الأوضاع في غزة؛ وصولا إلى ترك المسؤولية عن القطاع، إذا لم تُسلِّم حماس كامل الملفَّات إلى السلطة. 

أَزْيَدُ من ثلاثين شهيدا، خلال ثمانية أيَّام من مسيرة العودة الكبرى، وما يقترب من ثلاثة آلاف جريح، في قطاع غزة، فضلا عن استخدام قوَّات الاحتلال غازات مجهولة، لكنها تتسبَّب بتشنُّجات واضطرابات عصبية، وتسارُع في دقَّات القلب، تحاول الطواقم الطبيَّة علاجَها، منذ ستَّة أيَّام، من دون أن تتمكَّن من ذلك، ومن دون أن تنجح في تشخيصها. ذلك كله وغيرُه، لمواجهة مسيرات سِلْميَّة، يقلق دولةَ الاحتلالِ تسليطُها الضَّوْءَ على الأوضاع المأساوية في غزة، كما لا يريحها بالمرّة العنوان الذي تجري تحته، وهو "حقّ العودة"؛ وصولا إلى الخامس عشر من أيَّار/ مايو، ذكرى النكبة، وهو العنوان الآخَر الذي يعيد الصراع إلى أساسه الأول، وهو قيام دولة محتلة، على أنقاض جيلٍ من الفلسطينيين لا يزال أبناؤهم، وأحفادهم، ومَن بقي منهم، يتذكّرون، ويناضلون بما أُوتُوا من قوة متواضعة، ولكنها أكيدة، وفي غمرة المُتغيِّرات العميقة التي عصفت بالمنطقة العربية، ولا سيما سورية، ولبنان، وطاولت أولئك اللاجئين، مباشرة، ثم كانت ثالثة الأثافي، في اشتداد مساعي الإدارة الأميركية الراهنة، نحو تصفية قضيتهم، عبر تقليص الدعم لوكالة أونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين). 

ومثلما يُخذَل الفلسطينيون عالميا، بل عربيا، بسبب أولويات الحفاظ على السلطة، كما تمرّ نظُمٌ عربية في تطبيعها مع الاحتلال فوق مصيره، وفوق أرواح أبنائه المزهَقة، باستهتار كامل، يُخذل أيضا الشعب في سورية، عالميا، وعربيا، للسبب نفسه، أولوية الحفاظ على السلطة، ومقايضته بتلك الأجندات بالغة الخفة والأنانية، بل والنكوص عن مواقف قريبة العهد كانت تدعو إلى رحيل الأسد. 

وعلى المستوى الدولي، لم يتعاطَ ما يسمى المجتمع الدولي، أو الدولة الكبرى، أميركا، مع الأزمتين في فلسطين وسورية، بأيّ قدر من التعاطي الإستراتيجي الجادّ نحو الحل، بقدر ما اعتمدت إدارة النزاع. وحتى حين وجّه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هجوما صاروخيا على قاعدة الشعيرات، قبل عام تقريبا؛ ردّا على الهجوم الكيميائي على خان شيخون، في إظهار لصرامة ما مقابل خطوط سلفه الرئيس باراك أوباما الحُمْر المتراخية، لم تكن تلك الضربة علامةً على توجُّه أميركي نحو قيادة الموقف، وحتى وترامب يجدِّد تهديدَه، ويتوعّد بثمن باهظ على الهجوم الكيميائي الجديد على المدنيين؛ فلا يتوقع أن يُحدِث هذا التطور تغييرا كبيرا في الإستراتيجية الأميركية تُجاه سورية، (أو اللاستراتجية) ولا سيما وهو يتحدَّث عن انسحابٍ مُزْمَع من هناك. 

وليس بعيدا هذا التعاطي عن فلسطين، حيث إن جديد المواقف الأميركية، بعد رفض إدانة اعتداءات الاحتلال، والاستخدام المفرط للقوة في مواجهة متظاهرين سِلْميِّين، هو وقوف المسؤولين الأميركيين في موقف مَن يُحدِّد للفلسطينيين المسافات التي لا يُقبَل منهم تجاوزُها، نحو السياج الفاصل بين القطاع وفلسطين المحتلة(!) 

ولا يخفى أنّ الإخفاق الدولي، في حلّ أزمات حيوية، مِن قبيل القضية الفلسطينية، بما تمثِّله من مركزية عربية وإسلامية، وبما تمثُّله، إنسانيا وعالميا، مِن صورةٍ صارخة للعدالة المُغَيَّبة، والانحياز للمُعتدي، وتصويره، أحيانا، وكأنه الضحيَّة، يفاقم الشعور بالظلم المُؤَسّس، وضعف الثقة في مؤسسات العالم الدولية لحفظ الأمن والسلام، وعلى رأسها الأمم المتحدة التي تقف عاجزة عن إدانة تلك الاعتداءات الاحتلاليَّة، حتى ولو ببيان صحافي، وهو أدنى درجات المواقف، وكذلك، يوصَف إخفاق العالم، والدول الفاعلة، في وقف القتل والإبادة التي يتعرَّض لها الشعبُ السوري، منذ ما يزيد عن سبعة أعوام، من ثورته التي بدأت سِلْميَّة؛ لتتحوَّل، بما يشبه الاستدراج، إلى مواجهةٍ غيرِ متكافئة، ليس مع قوَّات النظام، وأجهزته الأمنية، ولكن في مواجهة مع حلفائه الإقليميِّين، مِن إيران، إلى العراق، إلى حزب الله في لبنان، ثم وأخيرا، في مواجهة دولة عظمى، هي روسيا (المجروحة في كرامتها الدولية)، بكلِّ ترسانتها المُسلَّحة التي باتت سورية مَعْرِضا لاختبارها وترويجها(!)

أسامة عثمان

 

من نفس القسم دولي