دولي

تهافت الخطاب التطبيعي

القلم الفلسطيني

... وقد يباشر هذا الخطاب التهوين من حالة احتلال فلسطين عبر حيلة المقارنات المُختزَلة والسطحية مع حالات صراع وعدوان أخرى، مثل استدعاء أعداد الضحايا أو مساحات أراضٍ تقع السيطرة عليها في حالات احتلال متعددة ونحو ذلك، وهو منطق ساذج يقضي بإغفال معظم قضايا العالم إن لم تحاكي مساحة التيبت. يقع هنا إغفال خصوصية قضية فلسطين وتجاهل طابع العدوان عليها الذي يستند إلى مشروع دولي لا يستهدف فلسطين وحدها ولا ينحصر تأثيره في رقعة محدودة، بما لا يجعلها صراع حدود تقليدي كما يوحي به مروِّجو التطبيع.

وبينما يتنصّل المطبِّعون من مواثيق والتزامات مبدئية؛ فإنّ بعضهم يقدِّسون انهيارات التسوية ويعظِّمون مبادراتها التي تتجاهل قيم التحرّر والحقوق والعدالة. ثم إنهم يُسرِفون في منح أوسمة الشجاعة والإقدام والذكاء الاستراتيجي على هوسهم التطبيعي، ولا يفوتهم استعمال "شرعية تاريخية" مزعومة لتبرير مروقهم الراهن بسابق تجربة "نضالية" يتباهون بها؛ كي يتعالون بها على النقد والمساءلة، وسيرفع أحدهم عقيرته بالتحدي: "أين كنتم عندما كنا نقوم بكذا وكذا؟".

ليس خافياً أنّ بعض سِمات الخطاب التطبيعي تأتي أحياناً بدون قصد، ويمكن تشخيصها حتى في سياقات لا يُراد منها أن تكون تطبيعية، فلا يقضي الاشتراك في بعض السِّمات بصدورها عن مقصد تطبيعي ابتداء، لكنّ الفحوى من شأنها تعزيز الخطاب التطبيعي أو التضافر معه بدرجة أو بأخرى.

لا يكتفي الخطاب التطبيعي بمستوى واحد أو بنبرة فريدة، فقد يأتي بأساليب اقتحامية أو هادئة، صادمة أو تدريجية، صريحة أو مستترة. فقد يُحمَل التطبيع بأسلوب اقتحامي يبدو مفاجئاً أو صادماً بطبيعته، وهو ما يتجلى مثلاً في إقدام مسؤول أو شخصية عامّة، من الدرجة الثانية أو ما دونها غالباً، على مواقف وتصريحات تطبيعية.

ويكتسب الأسلوب الاقتحامي تأثيره من كسر حواجز نفسية، وإشغال الجمهور بالقضية، واستثارة ردود مناوئة نحو جنرال متقاعد أو مسؤول مغمور أو شخصية من الدرجة الثانية أو ما دونها؛ مع إعفاء السياق ككلّ من المسؤولية عن الوِزر. وقد يقع هذا الانزلاق لتهيئة الأجواء لانزلاقات تتبعه، وقد يكون فقاعة اختبار لردود الفعل، أو يأتي ستاراً لتطبيع أعمق يجري تحت السطح. وتقوم الإرادة السياسية باستعمال هذا الأسلوب كي تنأى بنفسها عن مسلك يراه شعبها قذراً، فتلجأ إلى التطبيع بقفازات يمكن التخلي عنها إن تلطّخت بالأوحال، بما يشير إلى المصير البائس التي آلت إليه وجوه وقع استدراجها إلى خطوات تطبيعية عبر العالم العربي طوال أربعة عقود.

ومقابل الأسلوب الاقتحامي الصادم يأتي نظيره الهادئ أو الناعم، الذي يكتسب مفعوله من امتصاص الصدمات وتلافي ردود الفعل الجارفة، أو الأسلوب التدريجي الذي يأتي خطوة خطوة أو يتفاعل جرعة جرعة، والذي يُراهِن على تكييف الوعي الجمعي واستدراجه لاستساغة التطبيع بشكل ميسّر كي لا يستثير هبّة ساخطة.

ثمة أساليب فائقة النعومة تتيح تمرير المضمون التطبيعي غير الظاهر في سياق إيجابي يبدو نبيلاً، وهذا من قبيل تغليف السلوك التطبيعي بمقاصد "مبدئية" أو تعبيرات "وطنية"، وقد يقع هذا بسذاجة وحُسن نيّة أحياناً، مثل بعض دعوات زيارة القدس تحت الاحتلال بذريعة "الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني على الأرض"، مع إغفال الأبعاد الإشكالية التي ينطوي عليها التطبيق.

ثمة طرائق أخرى من التحايل، يجسِّدها الأسلوب التمهيدي مثلاً، الذي يعمد إلى تكييف الوعي بطريقة التسريبات غير المؤكدة، التي تُبقي خطوات التطبيع الفعلية موضع ضبابية وتأويلات لا يمكن الجزم بها، وقد تتكشّف حلقاتها بالفعل أو يقع الإقدام العلني عليها بعد أن تكون الذهنية العامة قد تهيّأت لها بما يكبح حدّة ردود الأفعال. ألا يبدو مثيراً للفضول في هذا المقام أن تتجاهل عواصم عربية فيض التقارير العبرية عن لقاءات وزيارات متكررة يباشرها مسؤولوها البارزون إلى مخادع الاحتلال من وراء شعوبهم، فلا تنفيها ولا تؤكدها؟

أما الأسلوب الاستباقي والردعي فيباشر التمهيد لخوض حفلة التطبيع بحملة تشويه ووصم لفلسطين ولمقاومتها، بغرض كبح ردود الفعل المتوقعة التي قد تستنفرها مساعي التطبيع ذاتها.

وثمة أساليب أكثر خشونة، منها النزعة الثأرية أو الانتقامية الذي تقدِّم الهرولة باتجاه نظام الاحتلال في هيئة انتقامية تثأر من موقف ما محسوب على الشعب الفلسطيني. وقد تجلّى مثل ذلك في سياق صدمات وصراعات وأحداث عرفها العالم العربي؛ كما يتجلى بقوة في التأجيج الدعائي عبر الشاشات والشبكات. لهذا يستمرئ بعض مروِّجي التطبيع مهاجمة الشعب الفلسطيني بشكل أعمى وإثارة الأحقاد والضغائن بين الأشقاء.

وقد يبلغ التسخين مداه بأسلوب الوصم والشيطنة، عبر جعل قضية فلسطين محسوبة على لون سياسي منبوذ أو تيار فكري مرفوض أو على دولة مناوئة أو على تجربة حكم معيّنة، فيستسهل مناهضو التيار ومناوئو الدولة ومعارضو التجربة إياهم إسقاط موقفهم هذا أو نظرتهم تلك على قضية فلسطين أيضاً، على نحو ساذج ولا يمكن تبريره. ويختزن أسلوب "وَصم القضية" في ذاته جاهزيةً أوفر لخوض تجارب تطبيعية "نكاية بالقضية" أو تحت إغراء تقديرات استراتيجية زائفة أو مصالح عارضة. وما يعزِّز هذا المنحى وفرة النمط الاستعمالي لقضية فلسطين في خطابات بعض العواصم، علاوة على تذرّع أطراف سياسية وأطياف فكرية بها، بما يحفِّز ردوداً ناقمة من مناوئيها تستهدف القضية أيضاً.

إنّ الخطاب التطبيعي هو، بالأحرى، خطابات متعددة الأشكال والتعبيرات تبعاً للمصدر والحالة والبيئة والجمهور والوسائل والسياقات؛ لكنّ مضامينها الرائجة تشترك في عناصر نمطية ذات منحى تبسيطي وساذج غالباً، وتتخللها تناقضات ضمنية. وواقع الحال أنّ مضامين الخطاب التطبيعي لا تهدف إلى الإقناع والاستمالة دوماً؛ بل قد تكون مقاصدها تبريرية ذرائعية، أو لدفع الاتهام عن أصحابها، أو للتعمية على مواقفهم بسُحُب دخان تحرف الأنظار عن الواقع.

ومن مراوغات الخطاب التطبيعي أن يدفع الاتهام عن نفسه بمزاعم مُقابِلة عن ضلوع أطراف أخرى، محسوبة على أنها "وطنية" أو "إسلامية" مثلاً، بما يماثل ذلك أو يفوقه، بغرض التشكيك بحيدة اللوْم ونزاهة الاتهام، ودفعهما صوب وجهة أخرى، أو إظهار التطبيع حالة عامة بالأحرى لا يصحّ لوم الضالعين فيها.

ليس نادراً تبرير موبقات الحاضر بصلاح الماضي؛ المفترض أساسا. فقد يلجأ بعضهم إلى "الشرعية النضالية والتاريخية" التي يتمسّحون بها للتغطية على توجهاتهم التطبيعية، ولتوظيفها بشكل عكسي عبر إقحام سابق البذل ضد الاحتلال في معرض تبرير لاحِق التصالح معه. وقد لا يتردد الخطاب التطبيعي الرسمي في النفخ في "التضحيات التي بذلناها لأجل فلسطين والخسائر التي تكبّدناها"؛ وأنّ الأوان قد حان "كي نلتفت إلى أنفسنا!".

ومن مراواغات هذا الخطاب تبرير ذاته بتصريحات ومواقف منسوبة إلى "محسوبين" على القضية الفلسطينية، بصفة تحفل بالتدليس والاختلاق وسوء الفهم أو إساءة التأويل أحياناً. ومن شأن ذلك أن يوفر غطاءً متوهّماً للتطبيع من جانب؛ وأن يشغل جهود مناهضته باحتواء هذه الذرائع الواهية على حساب التصدي للتطبيع ذاته.

.... يتبع

حسام شاكر

 

من نفس القسم دولي