دولي

لجان "خفض التصعيد" الفلسطينية

القلم الفلسطيني

مناطق خفض التصعيد أعلاه اصطلاح مستمد من أدبيات المأساة السورية التي أدخلت إلى اللغة السياسية المتداولة تعبيرات أخرى مخاتلة، تنطق بعكس معناها الحقيقي، يُستعار في هذه المطالعة من وحي بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الصادر في الثاني من فبراير/ شباط الجاري، والخاص بإحالة التكليف الملقى من المجلس المركزي، في دورة انعقاده أخيرا، على عاتق هذه اللجنة، التي أحالت التكليف نفسه على كاهل السلطة الوطنية، المطالبة هي الأخرى بتشكيل لجنة خاصة تدرس السبل والوسائل، وتقترح الإجراءات الكفيلة بوضع قرارات البرلمان الفلسطيني المصغر موضع التطبيق، لتضعها بين يدي اللجنة التنفيذية من جديد.

ولعل أول ما تلاحظه عين المراقب من فحوى النص المكتوب بعناية شديدة، وأهم ما تقف عليه، في سياق هذا البيان الصادر عن أعلى سلطة لاتخاذ القرار في المؤسسة الفلسطينية، أن القيادة التي جابت عواصم كثيرة في الأسابيع القليلة الماضية، لا تزال تحتفظ بنبرتها العالية في مواجهة قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها قبل نهاية العام المقبل. وأنها تميل، في الوقت نفسه، إلى تدوير الزوايا الحادة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، باستخدام عنصر الزمن لتنفيس الاحتقان الشعبي، وتهدئة الخواطر العامة التي رفعت درجة التحدّي على نحو انفعالي، وطالبت القيادة بتصعيد المواجهة مع الموقف الأميركي المتهور.

وبما أن حساب الحقل لا يتطابق مع حساب البيدر أبداً، وأنه حين تذهب السكرة تأتي الفكرة أنضج وأكمل، وأن تكون حكيماً أفضل من أن تكون محقاً، فقد بدا أن الغضبة الفلسطينية العارمة التي عبرت عن نفسها في ما بات يعرف بخطاب "يخرب بيتك" الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمام المجلس المركزي أواسط الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، في إشارة إلى ترامب، قد استنفدت أغراضها الشعبوية إلى حد بعيد، وأن السقوف السياسية المرتفعة، وفق ما بدت عليه في ذلك الخطاب التعبوي، قد اتضح أنها أكثر علواً مما تطاوله اليد الفلسطينية القصيرة، لا سيما لجهة رفض دور الوساطة الأميركية في عملية السلام أولاً، وإعادة النظر في منظومة العلاقة المعقدة مع إسرائيل ثانياً، بما في ذلك تعليق الاعتراف بها ووقف التنسيق الأمني معها.

قلنا في حينه؛ إن قرارات المجلس المركزي كانت شجاعة بحق، وإنها لامست الوجدان الفلسطيني، وفاضت عنه إلى المحيط العربي المجاور، إلا أنها قرارات غير قابلة للتنفيذ مع الأسف الشديد، كونها مفتقرة إلى الروافع الذاتية والموضوعية اللازمة لترجمتها إلى حقائق سياسية على الأرض، وإن تبعاتها المحتملة، حتى لا نقول شبه المؤكدة، كفيلة بإعادة عقارب الساعة الفلسطينية إلى نحو ربع قرن مضى، أي إلى ما قبل قيام السلطة الوطنية، ناهيك عن تحميل القيادة الفلسطينية عواقب الانسحاب من العملية السياسية المبنية على اتفاق أوسلو عام 1993، وهو ما يقدم خدمة مجانية لإسرائيل، المتلهفة على الخلاص من المكتسبات الجزئية المتفرقة، والإنجازات الكيانية الفلسطينية المتحققة بفعل ذلك الاتفاق الشهير.

وأكثر من ذلك، لا يملك الوضع الفلسطيني في طوره الراهن، في واقع الحال، مقومات الهجوم السياسي الناجح، ولا آليات الاشتباك الدبلوماسي المتواصل، وفق ما كان عليه الموقف قبل الانقلاب الشامل في سياسة الإدارة الأميركية المنحازة بشكل أعمى لأكثر المواقف اليمينية تعصباً وعدمية في الدولة العبرية، الأمر الذي يقتضي من حاملي جمرات المسؤولية بأيديهم العارية، والحالة هذه الحالة، أن يجنحوا إلى خفض حدة المواجهة مع الدولة العظمى الوحيدة، وأن يتجنبوا تبعات الصدام مع الدولة القائمة بالاحتلال، وهم على ما هم عليه من ضعفٍ وانقسام، وفقر موارد، وانكشاف، في وقتٍ يجد فيه العنصريون في حكومة نتنياهو، وفي الكنيست والمجتمع الذاهب من تطرّفٍ إلى تطرّف أشد، من يشد على أيديهم في البيت الأبيض بلا حساب.

بكلام آخر، أدرك الفلسطينيون أنهم حملوا بين أيديهم حجارةً أثقل وزناً من قدرتهم على الرمي بها إلى مسافةٍ أبعد من موضع أقدامهم، وأن ما قد يقدمون عليه من خطواتٍ مرغوبٌ بها وطنياً، سوف تلحق بهم ضرراً أفدح مما ستلحقه بأعدائهم الممسكين بتلابيب حياتهم اليومية، الأمر الذي أملى عليهم بناء سلّمٍ ينزلون على درجاته، رويداً رويداً وبصمت مطبق، من على فرع الشجرة العالية، التي صعدوا إلى ذروتها في لحظة جزعٍ من التحولات المتسارعة في سياسة الإدارة الأميركية، بما في ذلك غض البصر عن التوسع الاستيطاني غير المسبوق في القدس والضفة الغربية، ناهيك عما يبشر به مبعوثو ترامب في الشرق الأوسط من قرب طرح صفقة القرن، المصممة أساساً لتصفية القضية الفلسطينية.

على مثل هذه الخلفية، تبدو سياسة التأجيل والمماطلة التي تتبعها القيادة الفلسطينية حاليا، لتفادي عواقب التصادم مع إسرائيل، ومن خلفها الدولة التي لا تتمنى أي دولة في العالم الاصطدام بها، أقرب ما تكون إلى مفهوم مناطق خفض التصعيد المعمول بها في عدد من المناطق السورية، بما ينطوي عليه هذا المفهوم الملتبس من غموضٍ غير بناء، متفقٍ عليه بين ما تسمى بالدول الضامنة، من دون أن تكون هناك ضرورة لتمريره، في الحالة الفلسطينية، عبر محطة تفاوضية مثل أستانة، ومن غير دول ضامنة، طالما أن أولي الشأن أدركوا من تلقاء أنفسهم مدى الحاجة لتهدئة اللعب في هذه المرحلة غير المواتية، وأن المتاح لهم، إلى الآن، هو اللعب على هوامش خشبة المسرح الدولي، وفي أوساط الرأي العام، والمنظمات الحقوقية.

إذا لم تكن الخلية الناشطة في الدماغ الفلسطيني قد توصلت إلى هذا الاستنتاج، وأدت الانفعالات الفورية إزاء قرار ترامب إلى عدم رؤية أبعاد كامل المشهد المتكون في النطاق الإقليمي الأوسع، فإن من المرجح أن تكون هذه القناعة المعبر عنها في ما أسميناها "لجان خفض التصعيد" قد تحققت بفضل نصائح عربية ودولية، تم تقديمها وراء أبواب مغلقة، مفادها ضرورة تجنب الثور الأميركي الهائج في هذه الآونة، لتقليل حجم الخسائر، وتفادي التعرّض إلى مزيد من الانكشاف السياسي والمالي المحتمل بشدة، وذلك على قاعدة الحكمة التي كان قد عبر عنها أبو الطيب المتنبي قبل أكثر من تسعمائة سنة، حين قال: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدواً له ما من صداقته بد.

عيسى الشعيبي
 

من نفس القسم دولي