دولي

منظمة التحرير واستخداماتها

القلم الفلسطيني

شكل غياب الإقليم الجغرافي في التجربة الفلسطينية الحديثة مشكلةً حقيقية للعمل الوطني، في التعاطي مع التجمعات الفلسطينية المنتشرة في أكثر من بلد عربي، إضافة إلى تشتتها في الوطن ذاته، وهو ما فرض على حركة المقاومة العمل داخل دول عربية، كما جرى في الأردن ولبنان. وإذا كانت لهذه التجربة سلبيات وأخطاء كثيرة، فإنها كانت ممراً إجبارياً معمداً بالنار للتجربة الفلسطينية، لم يكن تجنبه ممكنا.

هذا ما حكمته طبيعة التجربة الفلسطينية، وطبيعة واقع الشتات، وطبيعة التداخل العربي مع القضية الفلسطينية. على الرغم من طبيعة العلاقة المتغيرة بين منظمة التحرير والبلدان المضيفة، فإن علاقة الانتماء للمكان بقيت محكومةً بإيجاد صيغة علاقة مع الوطن (فلسطين) من خارجه.

وكانت هذه الإشكالية التي طبعت رحلة التجربة الفلسطينية في الخارج، بدءاً من الأردن مرورا بلبنان وصولاً إلى تونس. لم تكن هناك صيغة تمثيلية عكست العلاقة بين المخيم، بوصفه قلب الثورة ومنطلقها، والإطارات التمثيلية الفلسطينية، ولم تحاول منظمة التحرير إيجاد صيغةٍ من هذا النوع. بل على العكس، عدت القيادة الفلسطينية أن الوجود الفلسطيني في هذا البلد أو ذاك ليس حاسماً في العلاقة مع التجمع الفلسطيني.

لم تكن هناك صيغة تمثيلية عكست العلاقة بين المخيم، بوصفه قلب الثورة ومنطلقها، والإطارات التمثيلية الفلسطينية، ولم تحاول منظمة التحرير إيجاد صيغةٍ من هذا النوع. بل على العكس، اعتبرت القيادة الفلسطينية أن الوجود الفلسطيني في هذا البلد أو ذاك ليس حاسماً في العلاقة مع التجمع الفلسطيني

لم تكن المخيمات يوماً في ظل التجربة الفلسطينية مركزاً للعمل الفلسطيني؛ فعمان ودمشق وبيروت كانت مناطق تركز كادرات حركة المقاومة الفلسطينية، أي قريبا من مراكز الاتصال وسلطة الدولة، حسب تحليل روز ماري صائغ في كتابها "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة".

يمكن القول إن منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية لم تكن مشغولةً بتحويل الإطار الجماهيري  المتعاطف الملتف حول منظمة التحرير إلى إطار تكامل تنظيمي وتمثيلي للتجمعات الفلسطينية، ولم تكن ترغب في إدارة هذه التجمعات، أو المشاركة في إدارتها، ولا هي غيرت، أو حاولت تغيير العلاقات الاجتماعية داخل المخيمات، بل أبقت العلاقات على حالها، مستفيدةً من تجاوز تمثيلها المكان الموجودة فيه، بمعنى أنها تمثل الفلسطينيين، لكن من دون صلة مباشرة بأوضاعهم الحياتية، الملقاة على عاتق الآخرين، الدول المضيفة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).

وبذلك لعب الشتات الفلسطيني دوراً معوّقاً في إيجاد صيغ تمثيلية صحيحة، ترتبط مباشرة بالبشر الذين تدّعي تمثيلهم. ولعب هذا الواقع، في الوقت نفسه، دور الذريعة للفصائل الفلسطينية بعدم البحث عن صيغ تمثيلية ملائمة في المواقع المتاحة، فكان أن ناسبها نظام تقاسم التمثيل بين الفصائل (نظام الكوتا) وفي تجاوزها قضايا التمثيل إلى القضية الوطنية بوصفها القضية الرئيسية، وهو النظام الذي كرّس الانفصال بين الممثلين (منظمة التحرير) ومن يمثلهم (التجمعات الفلسطينية)، بأن احتكرت الفصائل التمثيل عبر هذا النظام، من دون صلة جدية بمن تمثلهم.

فلا أحد كان يعرف الصلة بين من تسميهم الفصائل في "كوتا المنظمة" التجمعات التي ينتمون إليها، وكانت هذه الصلة، أغلب الأوقات، واهية أو حتى معدومة. بذلك تم الاعتماد على هذا الشتات، وعلى عدم وجود الفلسطينيين في إقليم واحد، لتكريس القيادة الفلسطينية احتكار التمثيل، واستقلال هذه القيادة عن التجمعات الفلسطينية استقلالاً كاملاً في المحاسبة والمراقبة.

بحكم هذا الواقع، تم تقديم الهوية التنظيمية على حساب الهوية الوطنية من الفصائل، مع بقاء منظمة التحرير إطاراً توحيدياً هشاً. أعلت طبيعة العلاقات مع التجمعات الفلسطينية قيمة الانتماء والولاء التنظيمي على حساب الانتماء الوطني، ما شكل إرباكاً للأوساط التي تُعلي من الانتماء الوطني على حساب التنظيمي. وليس غريبا، في هذه الأوضاع، أن يكون إعلاء الهوية التنظيمية على الهوية الوطنية أن يفسر أسباب عزوف كثيرين من ذوي الكفاءات الفلسطينية من مختلف الميادين، وفي مختلف المراحل عن الإسهام في الحركة الوطنية بكل طيفها السياسي، كما يفسر الفقر السياسي والثقافي في كوادرها، والذي وصل حد الفضيحة في السنوات الأخيرة.

على الرغم من كل العيوب التي شابت آليات التمثيل الفلسطيني، فإن التجمعات الفلسطينية حمت إطارها التمثيلي، وخاضت نضالاً مرّاً من أجل حمايته، بوصفه "الوطن المعنوي" الذي يجب المحافظة عليه إلى حين استعادة الوطن الحقيقي. وقد عبرت الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1991) عن مصالحة التجربة الفلسطينية مع الجغرافيا الفلسطينية في الوطن، بعد متاهةٍ في الخارج مرت بعدة بلدان عربية، دامت أكثر من عقدين. فقدت خلالها منظمة التحرير، بوصفها الإطار التمثيلي، كثيرا من قوتها، ليس بفعل تخلي الفلسطينيين عنها، بل بفعل ضعف الفصائل المكونة لها، وزاد من هذه الضعف البنية البيروقراطية للإطارات العليا التي نمت في إطار الفصائل والمنظمة، والتي أرهقت هذه المؤسسات، بدل أن تكون أداة تفعيلها.

جاء الإطار التمثيلي الذي خضع لانتخابات من خارج أطر المنظمة، وكان وليد اتفاقات أوسلو مع "إسرائيل"، وهو المجلس التشريعي، والذي كان إطاراً تمثيلياً محكوماً باتفاقات تقيده بوصفه مجلساً للحكم الذاتي، أكثر منه إطاراً تمثيلياً بالمعنى السياسي. وكان المفعول القاتل لهذه الانتخابات أنها كرّست واقعاً يدير سياسة فلسطينية جزئية، جعلت من الشتات الفلسطيني فائضاً عن الحاجة، وعملت على تدمير تصوّره عن الوطن الواقعي، وعن الوطن المتخيل، ما أدى فعلياً إلى تفكك منظمة التحرير، وفقدان وظيفتها التمثيلية، على الرغم من المحافظة على المنظمة باعتبارها إطارا تمثيليا، يستخدم ويستدعى عند الحاجة، لكن مع الحفاظ عليه هياكل فارغةً من أي وزن أو قوة. 

ما يجري اليوم من استدعاء هياكل المنظمة، كاجتماع المجلس المركزي الذي جرى أخيرا، أو حتى استدعاء المجلس الوطني للاجتماع، لا يخرج عن كونه استدعاء استخداميا، استعماليا محدودا، وليس استعادة لدور وطني شامل. ويريد الذين يديرون الوضع الفلسطيني اليوم إقناعنا بأن ما يُستدعى استخداميا بين حين وآخر، يمكن عدّه مؤسساتٍ، وكأننا لا نعرف أن المؤسسات الفاعلة والفعالة تقوم بمهامها يوميا، ولا يمكن اعتبار ما يُستدعى كل عامين، أو كل عقد، يمكن عدّه مؤسسات تمثيلية.

من يبحث اليوم عن استعادة الدور الوطني لمؤسسات منظمة التحرير لن يجده في القائمين اليوم على المنظمة، وعلى الفصائل الفلسطينية؛ فهؤلاء لا يصلحون لهذه المهمة أصلا، ومن يعتقد ذلك يبني أوهاماً لا أساس لها في الواقع السياسي الفلسطيني الميت.

سمير الزبن

 

من نفس القسم دولي