دولي
فلسطين قاطرة التحرر المزدوج
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 جانفي 2018
ربما لا يؤمن كثير من العرب أنهم عرب، وربما يضيقون ذرعا بلغتهم وتاريخهم وتراثهم؛ فيحسون كل ذلك عبئا عليهم. وقد يجتهد بعضهم صادقا في البحث عن مسالك خاصة للنهوض والتحديث، ولكنها تفشل بسبب أنه لا أحد يصدقهم. فنحن لا نختار الأمكنة التي نولد فيها، والأمكنة ليست مجرد معطى فيزيائي، هي أيضا كائن ثقافي.
مشكلة الذين يضيقون بعروبتهم ليست فيهم، بل في أصدقائهم الذين لا يصدقونهم؛ فيصبحون من ذلك الصنف العجيب الذي نسميه صنف "العرب رغما عنهم".
الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن القدس هي من نوع الصدمات الضرورية في التاريخ، التي تؤلم ولكنّها تزيل الغشاوة عن العيون وتعيد طرح الأسئلة؛ ولذلك فإنها قد تعيننا على إعادة اكتشاف أنفسنا وتوضيح الطريق.
بالطبع من حق البعض أن يعتبرها خطوة طائشة من رئيس متسرع، فذلك يريح الأنفس ويفتح بابا من الأمل ويرفع الحرج. ولكن من حق آخرين اعتبارها فرصة للتذكير بطبيعة الرهانات الإستراتيجية على منطقتنا، وعلاقة كل ذلك بالقضية الفلسطينية وبالقدس تحديدا، وما قد يبنى على كل ذلك من سياسات ومسارات.
القرار الأميركي محفوظ في الأدراج منذ سنة 1995، والحلم الأميركي بتمريره ليس جديدا ولم يتم التخلي عنه يوما. فقط الأميركان قوم عمليون يحددون الهدف ويتخيرون المسارات الموصلة والأوقات المناسبة.
في النصف الأول من التسعينيات؛ بدت الظروف مناسبة بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، والاختراق الأميركي للمنطقة بعد التدخل العراقي في الكويت. اللافت للنظر أن يترافق ذلك القرار مع انطلاق مسار أوسلو.
فهل أراد الفاعل الأميركي استثمار المنخفض التاريخي وتحقيق أهدافه جملة واحدة، بترويض المفاوض الفلسطيني وتصفية القضية بفرض أمر واقع جديد؟ أم أراد استعمال مشروع القرار ورقة للضغط على منظمة التحرير؟ أم أراد كالعادة استعمال سياسة التحسس ليختبر الممكن مما لم يحن وقته بعد؟ كل ذلك محتمل. ولكن الثابت أن هدف ترويض المنطقة لاعتبارات دينية وإستراتيجية ومصلحية في نفس الوقت لم يتغير يوما.
الرئيس الأميركي الجديد عاين وجود منخفض تاريخي آخر فأراد تعميقه. وما يحدث الآن هو رد على محاولة تمرد المنطقة في النصف الأول من سنة 2011؛ فقبلها كانت كل المؤشرات تدل على أن المنطقة استسلمت لمصيرها، باعتبارها منطقة التجزئة والتبعية والاستثناء من الديمقراطية.
وفجأة -وفي غفلة من الجميع- تُشعل عربةُ خضار في إحدى القرى النائية من تونس الأعماق جذوةً تداعت لها بسرعة القاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق وربما أيضا الرباط وعمان.
الخرائط التي تم رسمها والتوازنات التي تم الاشتغال عليها توشك أن تنهار، وخاصة تأمين محيط أمن للكيان الصهيوني وضمان تفوقه الإسترايجي في كل الحالات.
يمكن أن نغرق في الحديث عن التيارات والتنظيمات والأحزاب ونستغرق في التصنيفات لنحدد من المسؤول، ولكننا لا نعتبر ذلك هو المناسب. المدخل الأنسب هو الانطلاق من حقيقة التدافع في المنطقة بين مشروع لتحرير الإنسان والأرض والإرادة ومشروع للاستبداد والاستعباد.
ربيع 2011 أعطى أسبقية لمشروع التحرير، وهنا حصلت الأخطاء الكبرى وتشكلت اصطفافات خاطئة، وخُلطت الأوراق وارتبكت الأولويات، وتصادم ضحايا الاستبداد ودعاة الحرية والوحدة والتحرير، لقد أخطأ جميع الضحايا القراءة، فبعضهم لم يغادر أوهامه واستعجل النتائج، وبعضهم بحث عن العسل في عِش الدبابير، والجميع لم يُحسن تقدير كثافة الواقع.
وهكذا فسحوا المجال لخصم الجميع، أي المركب السابق للهيمنة؛ وهو مجموع قوى ومصالح قُطرية وإقليمية ودولية، ولكل منها دوافعه ورهاناته ومصالحه. فكانت صائفة 2013 هي موسم الانقلاب على ربيع 2011.
والانقلاب وصفة ثابتة غير أنها تستوعب صورا عديدة منها الغليظ ومنها الناعم، ويتم اللجوء إلى هذه الصورة أو تلك منها بناءً على تقدير حجم تهديد الحالة المعينة للتوازنات الكبرى، وخاصة المتعلقة بترتيبات قضية فلسطين.
وهكذا كانت سنة 2013 علامة على انتهاء مرحلة المناوشات للدخول في جوهر الموضوع، فانطلق مسار كان نصيب القلب منه انقلابا تام الشروط، وكان نصيب الجناح السوري إغراقا في حرب -دون أفق- تستنزف الجميع، وكان نصيب الأطراف احتواء يتناسب مع مواقعهم الطرفية.
وكانت الخطة العامة إعادة بناء الخرائط وزيادة التفكيك، في مشهد أعاد للأذهان معاهدة سايس بيكو في العقد الثاني من القرن الماضي، أو تفكيك الاتحاد السوفياتي وبلاد البلقان في تسعينياته.
ما يحسب للسيد ترمب أنه أعاد للأذهان مشهد المنطقة منذ قرن مضى. كأننا أمام الحلقة الثانية من مسلسل طويل، فمسار تمزيق المنطقة هو سايكس بيكو الجديدة، ومشروع القرار الأميركي هو وعد بلفور الجديد. إنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وهو بذلك أعاد للقضية زخمها في الضمائر والشوارع والمنابر.
وما يحسب له أنه أزاح عنا وهماً؛ فكما جانبنا الوعي التاريخي لما ظننا في ربيع 2011 أن وقت تحقيق كل أحلامنا قد أزف، فإننا نجانب الوعي الحضاري اليوم إن ظننا أن سبيل النجاة من ارتدادات ما بعد الانقلاب المصري إنما يكون بالتخفُّف من أعباء الانتماء.
غير أن تصوراتنا للوحدة لم تكن واقعية في قراءتنا لماضينا، كما لم تكن خطواتنا من أجلها أكثر من أحاديث نفس. ولا بد إذن من النزول بالمشترك من عالم المُثُل إلى الممكنات التاريخية، ومن عالم العقائد إلى عالم السياسة والمصالح المتبادلة، ومن التكتيكات الجزئية إلى المسارات الإستراتيجية.
عندها قد نجد في مسار البناء الأوروبي نموذجا ملهِما في تدرُّجه ومنهجيته، ومواءمته بين الهويات القُطرية الفاعلة والهوية الأوروبية الجامعة، المحققة لمعادلة يخرج فيها الجميع كاسبين.
بهذه النظرة الواقعية سنجد أن الحلم يمكن أن يكون واقعيا، وأن وحدة العصر ترتكز على التنوع، وأنها أقرب عادة إلى التنسيق والتكامل بدرجاته المتعددة، وبهذه النظرة الواقعية نتأكد أن استمرار احتلال فلسطين ليس فقط عائقا أمام أي شكل من أشكال التنسيق، بل هو أيضا عائق أمام النهوض بالأقطار كل على حدة، وأن استهداف القدس هو استهداف مادّي محسوس للعرب في وجودهم، وليس مجرد استهداف رمزي.
وبذلك تتوحد معارك الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحرير القرار الوطني مع معركة تحرير فلسطين، لتكون فلسطين قاطرة معركة تحرُّر العرب من الاستبداد والاستعباد، أي لتكون فلسطين والقدس عنوانا لنهضة.
عبد الحميد الجلاصي