دولي

إنه العجز أمام أميركا

القلم الفلسطيني

يختزل مشهد البرلمان المغربي، بغرفتيه اللتين تضمان 515 برلمانياً، وهم يرددون شعارات من قبيل "أميركا أميركا.. عدوة الشعوب"، إلى حد كبير، حالة العجز الذي توجد عليه الأمة العربية، وقلة الحيلة لدى مسؤولي الشعوب العربية للرد على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. كان يمكن لهؤلاء البرلمانيين، إن هم أرادوا فعلاً أن يعبّروا عن تذمرهم من قرار ترامب، أن يتخذوا قراراتٍ، لا أن يردّدوا شعارات، فهذه مكانها الشارع، وقد خرج الشارع المغربي بالفعل، يوم الأحد 10 ديسمبر/ كانون الأول، في مسيرة حاشدةٍ، جابت شوارع الرباط، وعبرت عن غضب الشعب المغربي من قرار الرئيس الأميركي.

كان في وسع البرلمانيين المغاربة، المفترض فيهم أنهم يمثلون الشعب، أن يتخذوا قراراتٍ ملزمة تعبر عن إرادة الشعب المغربي، من قبيل إخراج قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو القانون الذي تم اقتراحه عام 2014 وظل يراوح مكانه داخل رفوف البرلمان. وبسبب عدم وجود هذا القانون، سُمح لوزير الحرب الصهيوني السابق، عمير بيريتس، أن يترأس وفداً إسرائيلياً داخل القاعة نفسها التي وقف فيها البرلمانيون المغاربة يردّدون شعارات مناوئة لأميركا وإسرائيل. حدث ذلك يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي فقط، يومها لم يرفع البرلمانيون المغاربة الذين حضروا تلك الجلسة شعاراتٍ مناوئة لإسرائيل أو أميركا، وإنما انبرى بعض منهم إلى تبرير استضافة وزير دفاع الكيان الصهيوني السابق بأنه يدخل في إطار مناظرة دولية للجمعية البرلمانية للبحر الأبيض المتوسط، متناسين أن البرلمان المغربي هو مؤسسة دستورية، تمثل الشعب المغربي، وليست مقراً للجمعية البرلمانية لبرلمانات دول البحر الأبيض المتوسط! 

كان في وسع البرلمانيين المغاربة، أيضاً، أن يتخذوا قراراً بإرسال رسالة إلى الإدارة الأميركية أكثر تعبيراً من شعار "أميركا أميركا عدوة الشعوب"، بإلغاء تصويتهم على "قانون التبادل التجاري الحر بين المغرب وأميركا" الذي أنهى عامه الحادي عشر، وأثبتت التجربة أن المستفيد منه هو أميركا التي أغرقت السوق المغربية بمنتوجاتها، فيما لم تصل إلى المغرب أي من استثماراتها الموعودة. وسبق لوزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أن اعترف يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني أمام البرلمان المغربي بفشل هذا الاتفاق بين المغرب وأميركا، وأنه لم يحقق الأهداف التي تم إبرامه من أجلها. ألم يكن قرار إلغاء البرلمانيين المغاربة القرار سيكون أشدّ وقعاً على إدارة ترامب من شعاراتٍ تعرف السفارة الأميركية في الرباط أن البرلمانيين الذين يرددونها هم أنفسهم الذين يصطفون أمام أبواب قنصليتها في الدار البيضاء للحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة لهم ولأسرهم، بل ومن بينهم من أصبح يسافر إليها صحبة زوجته الحامل لتضع مولودهما هناك حتى يكتسب جنسية "أميركا عدوة الشعوب".

تعكس صورة البرلمان المغربي صورة "العجز" العربي من الخليج إلى المحيط، إنه العجز نفسه الذي عبرت عنه برلمانات وحكومات عربية، وعبرت عنه جامعة الدول العربية التي التأمت لتصدر قراراتٍ بلا قيمة ولا روح، وحتى الدعوة إلى عقد قمة عربية، يعرف الجميع أنها مستحيلة في ظل حالة التفرقة العربية، أرجأتها الجامعة إلى اجتماعها المقبل بعد شهر، كما لو أن الأمر يتعلق بنقطة تنظيمية، يمكن أن تنتظر شهراً أو أكثر.

حالة العجز العربي هي التي شجعت الرئيس الأهوج، دونالد ترامب، على اتخاذ قراره وتحدّي الجميع، فهو يدرك أن العرب هم الحائط القصير في المنطقة، كلما اشتد حوله حبل أزماته قفز فوق الحبل نفسه. فعلها من قبل عند بدء التحقيقات في تورّط مقربين منه بـ "الاتصال مع روسيا". يومها جاء إلى المنطقة العربية، وأخذ معه نحو 460 مليار دولار، قيمة صفقات أسلحة يعرف جيداً أن العرب لن يستعملوها إلا لتقتيل بعضهم أو شعوبهم وتخريب بلدانهم، فتحول النقاش من التهم التي كانت تحوم حول المقرّبين منه إلى قيمة "صفقة القرن" وقدرة ترامب على الابتزاز.

قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، هو أيضاً نوع من سياسة الهروب إلى الأمام التي يتقنها ترامب المخادع، ومرة أخرى كان يدرك أن ردود فعل العواصم العربية التي اتصل مع بعضها قبل صدور قراره لطمأنتها، لن تغيّر من قراره أي شيء. وفي المقابل، نجح مرة أخرى في إلهاء الرأي العام داخل بلاده، وفي العالم، عن التحقيقات التي تقترب منه يوماً بعد يوم.

كان يمكن للعرب أن يوقفوا ترامب عند حدّه، لو أن عاصمةً، أو عاصمتين عربيتين فقط، من دول الخليج أعلنت عن تراجعها عن صفقات مليارات الدولارات من الأسلحة التي أبرمها معها تاجر العقارات في واشنطن. كما كان لجامعة الدول العربية، بكل ما هي عليه من حالة الترهل والضعف، أن تتخذ قراراً جماعياً رمزياً باستدعاء جميع السفراء العرب في واشنطن للتشاور أن يربك كل حسابات ترامب المتهور، وترسل رسالة قوية إلى الرأي العام الأميركي بأن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب، وبأن القدس، جوهر هذه القضية، خط أحمر لا يمكن السماح لأيٍّ كان بتجاوزه.

مرة أخرى، ردود الفعل القوية، على الرغم من رمزيتها، جاءت من أندونيسيا التي عبر وزير دفاعها عن استعداد جيش بلاده للذهاب إلى القدس، وصدرت من دول حليفة لأميركا، مثل كندا، وفي أوروبا ومن دول بعيدة عن المنطقة، وعن القدس في أميركا اللاتينية.

وحده الشارع العربي المسلوب الإرادة هو الذي خرج للتنفيس عن حالة الغضب التي تسكنه منذ سبعين سنة، هي عمر القضية الفلسطينية. ومن عمق هذا الغضب التاريخي، خرجت كل أشكال الاحتجاجات العنيفة، من المقاومة الفدائية الفلسطينية إلى تنظيماتٍ أكثر راديكالية وعنفاً، مثل "القاعدة" وأخواتها، كلها كانت تتخذ من هذه القضية عقيدتها الرافضة للأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل، بدعم من الغرب وبتواطؤ أنظمة عربية أو تخاذلها. وقرار ترامب والصمت العربي الرسمي سيولدان جيلاً جديداً من الغضب العربي، سيزج المنطقة والعالم في صراعاتٍ أخرى، يصعب التنبؤ بمستقبلها.

علي أنوزلا

 

من نفس القسم دولي