دولي

عن قوة الردع «الإسرائيلية»

القلم الفلسطيني

تعتنق «إسرائيل»، منذ إنشائها وحتى يومنا هذا، نظرية لـ«الردع» و/ أو لـ«كيَّ الوعي»، قوامها: بناء قوة باغية قاهرة، عسكرياً، وأمنياً، وتكنولوجياً، بحيث تبقى، أي «إسرائيل»، متفوقة على ما عداها من دول المنطقة وقواها، و«دولة ثكنة» مهيبة الجانب، عصيّة على الاقتحام، ولا يجرؤ أحد على المبادرة إلى مهاجمتها، وتستطيع كلما شاءت، وحيثما أرادت، تدمير أية قوة ناشئة تتحفز لمهاجمتها في مهدها، بل، وإجبار أي قوة، دولة كانت أو حركة شعبية، على عدم الرد على اعتداءاتها وجرائمها، أي الإذعان والاستسلام لمشيئتها.

هنا، نظرية تجللها، من رأسها حتى أخمص قدمها، إيديولوجية عنصرية، جذرها خرافة «تفوق العرق»، وساقها هرطقات ومزاعم: «الجيش الذي لا يُقهر»، و«الدولة القلعة»، و«بالقوة والقمع والبطش تستسلم الشعوب»، و«ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة». وأكثر، هنا نظرية لإحلال أحلام قادة «إسرائيل» محل الواقع، كأنها هو. 

إنها نظرية إنكارٍ لحقيقة أن «إسرائيل» لا تستطيع التحكم بمصير فلسطين والمنطقة، دولاً وشعوباً، إلى الأبد، وأن قوتها العسكرية، مهما تعاظمت، لا تقوى على شطب حقائق تاريخ وجغرافيا وديموغرافيا فلسطين والمنطقة، أما أن تعبث «إسرائيل» بهذه الحقائق إلى حينٍ، يطول أو يقصُر، كما فعلت كل قوى الاستعمار التي مرت على المنطقة، وبينها إمبراطوريات عظمى، فأمر آخر، ويحتاج معالجة أخرى. 

تنطوي نظرية الردع «الإسرائيلية» على الظن بإمكانية وضع نهاية لمسار التاريخ المفتوح الذي لا نهاية له، ولا مرحلة أخيرة فيه. وعلى سبيل المثال لا الحصر: فاجأ الشعب الفلسطيني «إسرائيل» المنتشية، حتى الثمالة، بانتصارها المبهر في عدوان 67، حيث أطلق في الشتات، ثم في الوطن، ما بات يُعرف بمحطة العمل الفدائي الذي بلغ ذروته في معركة الكرامة، (1968)، التي صار ما بعدها غير ما قبلها.

وفاجأت انتفاضة 87 الشعبية الكبرى «إسرائيل» المنتعشة بنجاح حربها على لبنان، عام 82، في تشتيت قوات المقاومة الفلسطينية بعد صمود بيروت الأسطوري لمدة 88 يوماً. هنا، انقلبت كل الموازين، حيث نجحت تلك الانتفاضة في تحييد قوة «الاحتلال العسكرية، وتفوقت عليه سياسياً وأخلاقياً ومعنوياً، حتى باتت فعالياتها داخل الوطن، وأنشطة إسنادها في الشتات، بمثابة نمط حياة. لكن مفاوضات «أوسلو» السرية، بعد مفاوضات «مدريد» العلنية، قطعت السياق.

لكن على الرغم من «مصيدة أوسلو» للاعتراف بوجود «إسرائيل» وأمنها، ووصْمِ المقاومة الفلسطينية الدفاعية المشروعة بـ«الإرهاب»، مقابل إقامة «سلطة فلسطينية» أعفت الاحتلال من أعبائه السياسية والمادية والأمنية، فتحول إلى احتلال بلا كلفة، لم تتوقف المقاومة الفلسطينية المسلحة سوى لعامين، حيث اندلعت «هبة النفق» عام 96، وانفجرت «انتفاضة الأقصى» المسلحة عام 2000. وبعد اجتياح الضفة الوحشي عام 2002، وانطفاء جذوة تلك الانتفاضة، لم تنقطع الهبات الجماهيرية، بل، وتكللت بمفاجأة إطلاق «جيل مرحلة أوسلو»، في أكتوبر/ تشرين الأول، هبة عمليات الطعن والدهس التي، أذهلت قادة «إسرائيل»، وأرعبت قطعان المستوطنين. أما الحصار الشامل، وحروب الإبادة والتدمير الشامل لاجتثاث المقاومة المسلحة في قطاع غزة، فباءت بالفشل.

ماذا يعني الكلام أعلاه؟ لقد مر النضال الوطني الفلسطيني بمحطات مدٍّ، وبمحطات جزر مؤقتة. حدث هذا بعد النكبة، وبصورة أقل بعد «النكسة»، وضرْب المقاومة في لبنان، وانقطاع سياق الانتفاضة «الأولى» بفعل «أوسلو»، وخفوت الانتفاضة «الثانية» بعد اجتياح الضفة، وتهدئة مقاومة قطاع غزة بعد كل حرب عليه، لكن الثابت هو أن الشعب الفلسطيني، على الرغم من قوة «إسرائيل» العسكرية القاهرة الباغية، لم يرتدع، ولم يذعن، ولم يستسلم لاختلال ميزان القوى، بل خاض، ولا يزال، نضالاً وطنياً تحررياً مديداً متعدد الأشكال والمجالات، تعلو وتيرته أو تنخفض، وفقاً، لشروط الصراع الواقعية، دولياً وعربياً ووطنياً.

أما قادة الاحتلال، السياسيين والعسكريين والأمنيين، فتصدر عنهم، كلما فاجأهم الفلسطينيون باجتراح شكل جديد ومبدع من المقاومة الشعبية، تصريحات ومواقف، تشكك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في قوة الردع «الإسرائيلية». فإسحق رابين، أحد رموز العسكرية «الإسرائيلية»، وآباء نظرية الردع، توعد، فور اندلاع انتفاضة 87، بـ«إخماد أعمال الشغب خلال أيام»، لكنه دعا، لاحقاً، إلى إخراج الجيش من عش الدبابير في مخيم جباليا ونابلس القديمة، ثم تمنى لو أن البحر يبتلع غزة. 

أما نتنياهو، أكثر قادة «إسرائيل» عنجهية وتعلقاً بقوة الردع «الإسرائيلية»، فقد قال، (كرئيس لحكومة الاحتلال)، فور انطلاق هبة عمليات الطعن والدهس عام 2015: لا حلول سحرية. لكن آيزينكوف، الرئيس الحالي لأركان جيش الاحتلال، تجاوز الجميع، واعترف بالحقيقة المرة، حيث أعلن، مؤخراً، أن أكبر خطر يهدد «إسرائيل» هو تآكل قوة الردع «الإسرائيلية». يعني؟ لقد باتت مقولة «الجيش الذي لا يقهر» مهزوزة حتى من وجهة نظر أصحابها. لكن ما فات آيزنكوف هذا قوله هو أن تآكل قوة الردع «الإسرائيلية» هو مجرد مظهر من مظاهر تآكل عوامل قوة «إسرائيل»، بالمعنى الشامل للكلمة، في العقدين الأخيرين، على الأقل. فـ«إسرائيل» اليوم تعيش، فعلاً، مأزق التناقض بين فائض الطموحات وتآكل عوامل القوة.

علي جرادات

 

من نفس القسم دولي