دولي

بلفور والكتاب الأبيض (الاعتذار الخفيّ)

القلم الفلسطيني

منذ إعلان تصريح بلفور عام 1917 والذي جاءَ فيه تعهّد بريطانيا بإنشاءِ وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، عمدت الصهيونية بكافة أشكالها إلى إيهام العالم أنها تسعى إلى نيلِ حق باطلٍ في العيش على وطن زائف ومقدم من دولة استعمارية دأبت طيلة فترة احتلالها على تكريس العنصرية ونهب ثروات بلاد احتلتها عقودا طويلة، ولذلك أظهر الشعب اليهودي دوما أنه الطرف المضطهد المطالب بحقه بوطن -لم يكن يوما له ولا يملك فيه مقدار أُنملة- أمام طرف قوي إرهابي يريد ذبحه وإنهاء وجوده ورميه في البحر، فتآمرت السياسة البريطانية المنتدبة على أرض فلسطين والحامية للوجود اليهودي فيها، وساهمت ضمنيا في تنفيذ مخططات الصهيونية في ارساء قواعد الدولة اليهودية عبر تسليمهم الأراضي الأميرية لإقامة المستعمرات عليها وتسهيل الهجرة اليهودية لفلسطين، وغض الطرف عن تهجير أصحاب الأرض الأصليين من الفلسطينيين بواسطة عصابات يهودية مسلحة، كان من أشهرها الهاجانا والأرجون والشتيرن، والتي أسست بمساعدة القوات البريطانية بذريعة الدفاع عن مستعمراتهم.

وكانت الحركة الصهيونية تعمل ضمن استراتيجية مزدوجة اتضحت معالمها لاحقا، فعملت أولا على إرهاب السكان الأصليين (الفلسطينيين) بالقتل والتنكيل وارتكاب المذابح المنظمة، والتي كان أشهرها مذبحة دير ياسين في 9 أبريل/نيسان 1948 حيث قتل فيها أكثر من 360 فلسطينيا من مختلف الأعمار. مجزرة أليمة تجاهل أمرها المستعمر البريطاني والمكلف دوليا بالانتداب على فلسطين والذي يعني دوليا حماية أهلها، ومساعدتهم في بناء دولتهم، ولكن لم يجرؤ أحد منذ ذلك التاريخ ولا حتى يومنا هذا في محاسبة بريطانيا وتحميلهم المسؤولية القانونية والمدنية عن تلك المجزرة وغيرها من المجازر التي سبقتها وتلتها أيضا، ولم يتم توجيه أي اتهام إلى قادة وأعضاء تلك الفرق الصهيونية الإرهابية، والذين أصبحوا لاحقا قادة سياسيين للكيان المحتل، بل لم تتهم حركتهم يوما ما بالإرهاب رغم فداحة المذابح والقتل العمد التي ارتكبت بحق شعب مسالم يُتهم هو دوما بالإرهاب وهو المجني عليه.

وأما الجزء الآخر المرافق للاستراتيجية الصهيونية في تنفيذ مخططاتهم والتي تجلت لاحقا فقد كانت بمهاجمة المنشآت والقوات البريطانية في فلسطين ضمن ما أطلق عليه "حركة المقاومة العبرية"، بل وصل التمادي بجرائمهم إلى اغتيال ممثل هيئة الأمم المتحدة، الكونت "برنادوت" في سبتمبر/ أيلول 1948، إثر رفضهم لتوصياته آنذاك لحل الإشكالات بين اليهود والفلسطينيين، كان من أهمها وضع حد للهجرة اليهودية، وكامل الحق لكل من غادر فلسطين من أهلها العودة إليها، ووضع القدس بأكملها تحت السيادة العربية، ولكن لم تكن تلك الاقتراحات لليهود مقبولة وأدت إلى اغتياله.

شعرت بريطانيا أن العنف في فلسطين يزداد شراسة، وأن سيطرتها على الأمور لم تعد كما كانت في السابق خصوصا بعد انطلاقة ثورة فلسطين الكبرى عام 1936، والتي استمرت حتى عام 1939، حيث شملت جميع أنحاء فلسطين وكانت الأطول عمراً قياساً بالثورات والانتفاضات التي سبقتها حيث وقعت معارك ضارية وعنيفة بين مقاتلي الثورة والجيش البريطاني والعصابات الصهيونية. 

وعلى إثر ذلك أصدرت الحكومة البريطانية وثيقة رسمية سميت بـ"الكتاب الأبيض" في 27 مايو/أيار1939، والذي تعهدت بتنفيذه من جانبها حسب النص الذي جاء فيها: "وسيُسار في هذه العملية سواء اغتنم كلا الطرفين (العربي واليهودي) هذه الفرصة أم لا". ويتلخص المبدأ الأساسي الذي يحكم سياسة الكتاب في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثل فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي، ومن الواضح بذلك تراجعها في وثيقتها هذه عن تقسيم فلسطين إلى دولتين كما جاء في وثيقة بلفور، والذي أفضى إلى صدامات وعنف واضطراب دموي لعشرات السنين، ورأت صعوبة إنشاء دولتين يتم تبادل السلام بينهما، لذا كان على الحكومة البريطانية استنباط بديل للتقسيم، و تذكر في الكتاب الأبيض أن واضعي صك الانتداب الذي أدمج فيه تصريح بلفور، لا يمكن أن يكونوا قد قصدوا تحويل فلسطين إلى دولة يهودية خلافاً لإرادة العرب سكان البلاد، ولذلك، فإن حكومة جلالته تعلن الآن بعبارات لا لبس فيها ولا إبهام أنه ليس من سياستها أن تصبح فلسطين دولة يهودية. أما المادة الخامسة فتقتبس فقرة من الكتاب الأبيض الصادر عام 1922 حول مفهوم الوطن القومي اليهودي، فتقول المادة بأن الحكومة البريطانية تتمسك بذلك التفسير الذي يعتبر اليهود في فلسطين طائفة لها في الحقيقة مميزات قومية.

في الحقيقة شكل الكتاب الأبيض تراجعا واضحا في السياسة البريطانية نحو دعم الصهيونية بكل مكوناتها جراء تزايد العنف والقتل والغليان الشعبي لدى العرب والفلسطينيين، وكان بمثابة جرس الإنذار للبريطانيين بفقدانهم السيطرة على مجريات الأمور. لقد أثارت هذه الوثيقة حفيظة الحركة الصهيونية بمختلف أوساطها والتي اجتمعت على رفضها ومعارضتها والتصدي لها، واعتبرتها تراجعا لبريطانيا عن وعدها بإقامة وطن قومي يهودي لهم في فلسطين حسب تصريح بلفور المشؤوم، بل اعتبرته تهديداً جدياً للمشروع الصهيوني الذي تشكلت ملامحه في مؤتمر بازل 1897، ورغم اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 وقفت الحركة الصهيونية مع بريطانيا وقوات الحلفاء بنفس المعايير المزدوجة التي تتبناها، وقد تمثل ذلك بقول بن غوريون “سنحارب مع بريطانيا في هذه الحرب كما لو لم يكن هناك كتاب أبيض، وسنحارب الكتاب الأبيض كما لو لم تكن هناك حرب”.

بدورهم رفض العرب هذه الوثيقة الهامة والتي أعطتهم حق الدولة الفلسطينية الكاملة واعتبروا السماح بحق اليهود في تمثيل نسبي هو أمر مرفوض، واستمرت مواجهتهم للقوات البريطانية وللعصابات الصهيونية برغم قلة مواردهم وقدراتهم العسكرية مقارنة مع الطرف الآخر، حتى أعلنت بريطانيا في أواخر 1947 توصيتها للأمم المتحدة بإلغاء الانتداب على فلسطين في 15 أيار/ مايو 1948، على أن يعقب ذلك إقامة دولة يهودية مستقلة ودولة فلسطينية مستقلة، وقد رفضت جميع الدول والشعوب العربية هذا الأمر، مما أدى إلى ازدياد المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والتي تزعمها عبد القادر الحسيني ضد العصابات الصهيونية والمسلحة المدعمة بريطانيا و أميركيا.

فمن المسؤول عن ذلك!! ومتى تنتهي هذه المأساة التي بدأت فعليا منذ إعلان بلفور المشؤوم1917، إنها مائة عام من الصراعات والحروب والتشريد والقتل ومعاناة أمة، وما زالت مستمرة، وتدرك بريطانيا تماما مسؤوليتها عن كل ذلك، وقد تجلى ذلك في وثيقتها الكتاب الأبيض White Paper of 1939،  والذي يمثل تراجعا واضحا عما جاء في وثيقة بلفور، ولكن يبقى هو الاعتذار الخفي الذي لم يعلن صراحة بعد، ونحن نطالب به علنا وأمام العالم أجمع.

محمد الأنصاري

 

من نفس القسم دولي