دولي

وعد بلفور.. هل كان مُعاديًا لليهود؟!

القلم الفلسطيني

للفلسطيني أرقامٌ كثير تُرافقه في حياته، وإن كان هُناك رقم يستحيل للفلسطيني نسيانه فهو بلا شك رقم 48، نسبة إلى عام النكبة 1948، ولكن رقم 1917 بداية الحكاية بالنسبة لأكثرنا، فقد سمعناه ولا زلنا نسمع مع كُل ذكرى لوعد بلفور الذي نتذكره هذا العام للمرة المائة، فهو معنا وُجزءٌ من نكبتنا، ولهذا تجدنا نتخيّل أنفسنا خُبراء في حكاياته!

رحلة مع موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ومع الجُزء السادس تحديدًا الذي يتناول الصهيونية وحكاياتها، تجعلنا نُزيل أي شك بأننا لم نكن نعرف عن وعد بلفور إلا القشور التي نُكررها في كُل أحاديثنا التي صارت "مُملة"، فنحن لا نتقدم في فهمنا لتاريخنا، ولا نُقدم أي جديد في حديثنا، بل ونتجاهل - عن غير وعي منّا - جهود من بذلوا حياتهم في فهم الصهيونية، مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمة الله عليه- الذي قضى 25 عامًا من حياته في كتابة هذه الموسوعة!

قبل الموسوعة، لم أكن أتخيّل أبدًا أن وعد بلفور لم يصدر حُبًّا في اليهود ولا تقديرًا لجهودهم العظيمة في اختراع الأسيتون، كما علمنا أساتذة التاريخ، بل إن المسألة فيها الكثير من "مُعاداة اليهود" كما تؤكد الحقائق التاريخية، فمع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفق يهود اليديشية من شرق أوروبا إلى غربها، وبدلًا من أن تشتغل أوروبا باستقبال اللاجئين الجدد، انشغلت بما يُسمى "التخلص من الفائض اليهودي" من خلال دعم الصهيونيّة لتوطين اليهود في أي مكان خارج أوروبا، ولو راجعنا تاريخ بريطانيا سنجد أن السير آرثر بلفور نفسه تبنّى "قانون الغرباء" الذي صدر بين عامي 1903 و1905 والذي كان يهدف إلى وضع حد لدخول اليهود اليديشيّة إلى بريطانيا!

قد نتخيّل أن بريطانيا هي المُشكلة، ولكن المسيري يؤكد في الموسوعة أن المسألة ليست مسألة "وعد بلفور" فقط، بل هي وعود بلفوريّة، هي جُزء مما يُسمى "العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية"، فقد كان هناك وعد بلفوري روسي والذي جاء فيه بشكل واضح، أن روسيا لا تريد التخلص من جميع اليهود، ولكنها تريد التخلص من الفقراء والمُعدمين منهم. كما كان هناك وعد بلفوري ألماني حصل عليه هرتزل من القيصر "غليوم الثاني" أكد له فيه أنه سيُناقش أمر توطين اليهود في فلسطين مع السلطان العثماني، ولكن الوعد لم يتم بسبب رفض السلطان، ولا ننسى الوعد البلفوري النابليوني الذي كان قبل أكثر من 100 عام من وعد بلفور الأصلي، حيث خاطب نابليون يهود العالم بالتجمع للعودة إلى "أرض الأجداد" كما سمّاها!

حتى فكرة "أرض الأجداد" لم تكن هم الصهاينة وشُغلهم الشاغل، فقد كان هناك مذهب صهيونيٌ يُسمى الصهيونية الإقليمية Territorial Zionism وكان أصحابه يرون ضرورة تهجير الفائض البشري اليهودي في أوروبا إلى أي مكان في العالم، ولربما سمع بعضنا بحكاية الأرجنتين أو أوغندا التي كان يُقصد بها كينيا والتي كانت ستُسمى "فلسطين الجديدة" وكان هرتزل من الموافقين على المشروع، وعندما تم نقاش المشروع في المؤتمر الصهيوني السادس وافق على المشروع 295 صهيونيا مُقابل 178 كانوا ضدّه.

من يقرأ الموسوعة، سيرى أعجب من ذلك، سيجد اقتراحات "مجنونة" كأنها تُحاول إيجاد أي حل لمُشكلة اليهود في أوروبا بأي طريقة، حيث كان بعضها يتحدث عن إقامة دولة لليهود في ليبيا وفي برقة تحديدًا، كما كان هناك من اقترح جعلها في العريش في سيناء، ولكن الأعجب هو الاقتراح الذي قدمه طبيب يهودي روسي ينص على تشكيل جيش يهودي قوامه 30 ألف مقاتل يتم اختيارهم من شباب اليهود في شرق أوروبا، ويتخذ من البحرين قاعدة له، وتتولَّى بريطانيا بالتعاون مع حليفتيها فرنسا وروسيا تدريب الجيش وإمداده بالعتاد والأموال والمستشارين العسكريين الأكفاء، بالقدر الذي يؤهله للانقضاض على منطقة الإحساء، وفرض السيطرة عليها وإقامة نواة "دولة اليهود" فيها.

الأكيد، أن الأمر أكبر بكثير، وأن الفهم الحقيقي للصهيونية والعقد الصامت بينها وبين الحضارة الغربية لا يكون بمُطالعة مدونة، ولا حتى موسوعة، ولكن الأكيد أن موسوعة المسيري فيها أفكار كثيرة، قد لا نجدها في كثير من الكتب العربية التي تتناول هكذا قضيّة. فالمسيري خصص خاتمة الجُزء السادس للحديث عن مُعارضة اليهود لوعد بلفور، وهي حكاية مثيرة بلا شك، وتستحق منّا مدونة خاصّة، تأتي لاحقًا!

عمر عاصي

 

من نفس القسم دولي