دولي
السياسيون والمقاومة
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 12 سبتمبر 2017
أن تختار قيادة شعب محتل نهجًا بديلًا للكفاح المسلح لا يعني بالضرورة أن تنغمس كليًّا في خط مفاوضات لانهائية مع العدو، وهو بالطبع لا يعني أن تتحوّل إلى معاداة المقاومة وملاحقة المقاومين الناشطين كما هو عليه حال السلطة الوطنية الفلسطينية اليوم.
في مختلف مراحلها، لم تعدم الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بقادتها، الوسيلة في ابتكار أشكال متجددة للمقاومة، ولم يدّخر هؤلاء جهدًا لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من مجريات الحوادث الطارئة على الساحتين الإقليمية والدولية لدعم استمرارية الثورة ودفع عجلتها إلى الأمام، وكانت تتساوى في ذلك عندهم الحوادث الكبرى المركزية مع الحوادث الصغيرة العابرة. كلها كانت مؤهلة لأن تشكّل جزءًا من مشروع الثورة الممتد.
في مجموعة الشهيد صلاح خلف، المحفوظة لدى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يجد الباحث الكثير ممّا يمكن تناوله في هذا الإطار، فالتقارير المرسلة إلى القيادة الفلسطينية من شتى بلدان العالم تحمل معها تحليلات للحوادث الجارية وقتها، ومقترحات لكيفية توظيفها في خدمة القضية. ومهما بدت بعض هذه التفصيلات هامشية أو عابرة بالنسبة للرائي العادي، فقد كانت دائمًا في عين المناضل نافذة لأمل جديد.
أحد هذه التقارير، على سبيل المثال، أرسله كاتبه من كندا، ناقلًا فيه وصفًا لرجل يهودي شيوعي من أصل بولندي اسمه موريتس. كان موريتس ضابطًا في الجيش الأحمر في أثناء الحرب العالمية الثانية، هاجر إلى فلسطين عام 1946، وتجند في منظمة البالماخ العسكرية، وشارك في حرب عام 1948، إلّا أنّه، بحسب التقرير، كان موضع انتقاد وتجريح دائمين من قادته بسبب عدم التزامه الأوامر. وبالفعل، لم يطل به الأمر حتى أدرك حقيقة ما يريد، فعاد وهاجر إلى كندا ليعمل هناك خياطًا، وينشط في مناهضة الحركة الصهيونية قدر استطاعته. كان يعقد المحاضرات والندوات، ويظهر في اللقاءات التلفزيونية، ويلتقي بالعرب، ويتحدّث عن جرائم الاحتلال أينما وُجد. يقول كاتب التقرير: "التقيناه، وطلبنا منه أن يعمل على خلق تجمّع من اليهود المعادين للصهيونية، وسنختبرهم من خلال النشاطات الإعلامية العامة".
على صعيد أوسع، يتناول تقرير آخر موقف رئيس أوغندا الأسبق عيدي أمين دادا من الوجود الإسرائيلي في بلاده، ويلتقط مبكرًا مؤشرات بدء تحرر القارة الإفريقية من النفوذ الصهيوني في بداية سبعينيات القرن الماضي، داعيًا إلى تحرك فلسطيني عاجل، على اعتبار أنّ فلسطين هي البديل الطبيعي للصهيونية المنبوذة في تلك الدول.
يُذكّرنا التقرير، أو على وجه الدقة هو يُذكّر القيادة الفلسطينية، بإجابة السفير الإسرائيلي عن سؤال لأحد الصحافيين حول موقف بلاده من مسألة طرد ممثليها في أوغندا، حيث قال: "لن نفعل شيئًا، وسوف أبقى في نيروبي من دون عمل أنتظر دعوة الجنرال عيدي أمين إلى مقرّ عملي في كمبالا، وذلك بعد أن يعرف الإفريقيون العرب على حقيقتهم".
يحمل التقرير هذه المراهنة من السفير الصهيوني على محمل الجد، ويوصي قيادته بعدم تفويت هذه الفرصة الذهبية، مقترحًا تشكيل لجنة سياسية اقتصادية فنية تُسند إليها مهمة العمل في الدول الأفريقية لتأكيد الوجود الفلسطيني ودعم قضيته العادلة ضد الاحتلال.
يقدّم النموذجان السابقان صورة مقرّبة لكيفية تعامل السياسي الفلسطيني المناضل مع قضيته، وهما يؤكدان على أنّ المقاومة لم تكن يومًا محصورة بشكل واحد فحسب، بل هي باب واسع ينفتح على خيارات متعددة.
إنّ ما يحدث اليوم ليس أمرًا طبيعيًّا تقتضيه المرحلة كما يحلو لبعض السياسيين الفلسطينيين أن يوهموا أنفسهم به، فالضغوط التي تتعرض لها السلطة الوطنية الفلسطينية لا تحتم عليها أن تُطَلّق المقاومة، ولا أن تدفن رأسها في رمال المفاوضات، ولا أن تتحوّل إلى ذراع تنفيذية للاحتلال؛ بل على العكس من ذلك كله، إذا كان من مبرر لوجود هذه السلطة فهو دعم المقاومة، وخلق أشكال جديدة لها، وقيادة شعبها على طريق تحرير كامل التراب الفلسطيني.
منى عوض الله