دولي

المسجد الأقصى.. معادلة جديدة تقلب الموازين

القلم الفلسطيني

يبدو سياق الأحداث التي عصفت بالمسجد الأقصى خلال الأيام القليلة الماضية، وما ارتبط بها من استهداف وعدوان غير مسبوق؛ مدروسا ومبرمجا في إطار مخطط مرسوم ولج مرحلة جديدة وخطيرة، عبر سيطرة الاحتلال الكاملة على إدارة الأقصى.

ورغم مشهد الاستهداف والعدوان الراهن بحق الأقصى، وما رافقه من صخب مدوٍّ للشعارات والتهديدات والمظاهرات؛ فإن العملية الفدائية بمستوطنة "حلميش" التي قَتل فيها شابٌ فلسطيني غير حزبي عدةَ إسرائيليين، وصمود المقدسيين والمرابطين على بوابات الأقصى؛ يشكلان الكابح الأهم للمخطط الإسرائيلي الساعي لحسم معركة الأقصى، وإنفاذ الأجندة العنصرية بفرض تقسيمه زمانيا ومكانيا، وصولا للهدف الصهيوني الأكبر بهدمه وإقامة الهيكل المزعوم.

يخطئ من يعتقد أن العدوان الحالي على الأقصى الذي سجل السيطرة الإسرائيلية الكاملة على مرافقه المختلفة للمرة الأولى منذ 1969، فتم بموجبها منع رفع الأذان وإقامة الصلاة فيه، وطرد حراسه والعبث بمحتوياته ومرافقه المختلفة، وتدشين بوابات إلكترونية ونصب كاميرات مراقبة على مداخله، وغيرها من الإجراءات العدوانية؛ هو وليد اللحظة الراهنة.

أو أن العملية الفدائية -التي نفذها ثلاثة من فلسطينيي الداخل الفلسطيني المحتل داخل الحرم الشريف مؤخرا- كانت السبب المباشر لهذا العدوان غير المسبوق.

للأقصى قصة وتاريخ وحكاية مع الاحتلال، فقد شكل عقدة العُقد في بنية العقيدة الصهيونية المحرّفة والمنحرفة. ومنذ اللحظة الأولى لاحتلال القدس 1967 بدا واضحا أن استهداف المسجد الأقصى بالهدم والإزالة وإقامة هيكل سليمان حسب الزعم الصهيوني، يقع في صلب الأولويات العقدية والسياسية للاحتلال.

لذا، لم يكن غريبا أن تتوالى وتتواتر الاعتداءات على الأقصى، وتأخذ أشكالا متعددة شملت الحرق والتخريب وإطلاق النار والاقتحام والتدنيس المباشر، إلا أن كل ذلك بقي قاصرا عن بلوغ الهدف الصهيوني الكبير بسبب اليقظة الفلسطينية والعربية والإسلامية، التي شهدت في إحدى مراحلها اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 ردا على اقتحام أرييل شارون لباحات الأقصى آنذاك.

ولعل فحص ودراسة طبيعة الإجراءات الإسرائيلية القمعية التي توالت بحق الأقصى في السنوات الأخيرة، يكشف بجلاء عن تسارع في وتيرة الخطوات التي تشكل الأرضية المثلى لترجمة المخطط المرسوم وتطوير سقف تنفيذ آلياته الموضوعة.

إذ اكتسبت هذه الإجراءات -بالإضافة إلى الأبعاد السياسية المعروفة ذات العلاقة بالتهويد وتغيير المعالم وطمس الوجود العربي والإسلامي- أبعادا قانونية عميقة، وجدت صداها في التشريعات والقوانين العنصرية التي تم إقرارها والمصادقة عليها في "الكنيست" الإسرائيلي، لإكساب البعد السياسي ثوبا قانونيا وقالبا تشريعيا موازيا.

وقد حملت الأسابيع الفائتة الكثير من التصريحات الإسرائيلية الصادرة عن مستويات سياسية رفيعة، فضلا عن تصريحات موازية صادرة عن قادة الجماعات الصهيونية المتطرفة، وكلها توحي بأن شيئا خطيرا في الأفق ينتظر الأقصى، وأن الاحتلال في وارد الانتقال إلى مرحلة جديدة ذات صفة حاسمة لحسم معركة النفوذ والسيطرة عليه، فكان ما كان.

وهكذا أصبح مشهد اقتحام الأقصى والإجراءات القمعية التي اتخِذت بحق المرابطين والقيادات المقدسية، حدثا اعتياديا في البعد الوجداني الفلسطيني والعربي والإسلامي، ولم يعد حدثا ذا شأن في سلم أولوياتها واهتماماتها السياسية والإعلامية. وهو ما جعل الاحتلال يعزم عزمته الخبيثة، ويُجمع أمره لانتهاز الفرصة المواتية التي عضّدتها المعطيات والظروف المحيطة.

وسط هذه المتاهة التي لفّت الفلسطينيين وشغلتهم؛ لم يجد الصهاينة معطيات مؤازرة وظروفا خصبة لتنفيذ مخططاتهم ضد الأقصى، كتلك المعطيات البائسة والظروف المتردية التي يرزح تحت ظلها الفلسطينيون اليوم.

فقد بدت المواقف الأميركية مطواعة إلى حد كبير فيما يخص الموقف الإسرائيلي من الأقصى، بل إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب جاهر بزيارة حائط البراق خلال زيارته الأخيرة لـ"إٍسرائيل"، وأدى طقوسه التعبدية فيه.

وكان في ذلك رسالة اصطفاف بيّن إلى جانب الرؤية الإسرائيلية التي ترى في حائط البراق معلما يهوديا محضا، وتسعى لتقسيم الأقصى زمانيا ومكانيا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتمنح الفلسطينيين حق الصلاة وأداء الشعائر التعبدية في الزوايا المخصصة لهم داخل الأقصى فحسب، دون أي سيطرة فعلية أو تواجد حقيقي.

وبين هذا وذاك، فقد اكتفى الموقف الدولي -الذي عاين الضعف والتردي الفلسطيني والعربي والإسلامي- بتعبيرات عامة، يتوافق بعضها مع الإجراءات الإسرائيلية ويعمد إلى تبريرها، فيما يعبر البعض الآخر عن القلق الروتيني المجرد لا أكثر.  

وسط هذا الارتكاس الفلسطيني والعربي والإسلامي الأليم، وفي ظل التجاهل الدولي للجريمة الإسرائيلية بحق الأقصى؛ بدت الصورة قاتمة وسوداوية، وبدا معها المخطط الإسرائيلي أقرب إلى تحقيق أهدافه السود، دون أي كابح فعلي أو رادع حقيقي.

فجأة، تغيرت المعادلة من الألف إلى الياء، ومعها تغيرت المعطيات وآليات الفعل في إطار العلاقة مع الاحتلال؛ فقد فجرت عملية مستوطنة "حلميش" البطولية الموقف في وجه قادة الاحتلال، وأربكت حساباتهم وأدخلتهم في دوامة من الحيرة والذهول.

اليوم يبكي نتنياهو وقادة الاحتلال دما إثر عملية "حلميش"، فقد عاش الاحتلال جوا هادئا نسبيا على مدار الأشهر الماضية اعتقد خلالها أن الفلسطينيين قد استكانوا للأمر الواقع، فانطلق جيشه الغاشم معربدا في باحات الأقصى بكل صلف واستكبار، إلا أن الرد جاءه من حيث لم يحتسب.

نحن هنا لا نتحدث عن الفصائل الفلسطينية ذات الحسابات المصلحية التي تضع الوطن في آخر حساباتها، بل نتحدث عن طائفة من الشباب الفلسطيني الثائر وغير المؤطر تنظيميا، تقدم بغيرته وإيمانه الديني والوطني على سائر الفصائل والانتماءات الحزبية، وامتلك زمام المبادرة -بسرعة ناجزة وغير مقيدة بأي أجندات خاصة- للدفاع عن مقدساته، وحقوق شعبه العادلة التي كادت تؤدي بها الفصائل المتناحرة إلى الضياع.

يتقدم اليوم جيل جديد ليحيي قضية شعبه من جديد، ويبعث فيها روح الأمل والمصابرة والتحدي، ويعلن للاحتلال أن عهد الغطرسة المفتوحة قد ولّى، وأن للمسجد الأقصى ولفلسطين رجالا يفدونهما بأرواحهم وبأعز ما يملكون، وأن المؤامرة على الأقصى ستتحطم على صخرة أجسادهم الطاهرة.

الأيام القادمة حبلى بالكثير من المفاجآت، وما دام الشباب الفلسطيني الثائر قد انطلق في فضاء الدفاع عن أقصاه ومقدسات شعبه، فإن على قادة الاحتلال أن يتوقعوا المزيد من العمليات الفدائية الموجعة، وأن يستمروا في نزف الدم وذرف دموع العجز والندم، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

مؤمن بسيسو

 

من نفس القسم دولي