دولي
القدس والاحتلال وطمس الهوية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 جوان 2017
تنفرد مدينة القدس -دوناً عن سائر المدن-بمكانة روحية ودينية ورمزية رافقت تاريخها عبر العهود والعصور المختلفة، وتكاد أبنيتها ومساجدها وكنائسها وآثارها الدينية والتاريخية تنطق بهذا التاريخ الممتد والحافل، حيث تتعلق أنظار المسلمين والمسيحيين واليهود بالمدينة المقدسة، وتمثل لكل هؤلاء رمزاً دينياً وتاريخياً وسياسياً على درجة فائقة الأهمية -ذلك بصرف النظر مؤقتاً عن مصداقية الدعاوى اليهودية والصهيونية.
فالقدس بالنسبة للمسلمين في العالم هي أولى القبلتين وثالث الحرمين، وتضم الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى وغيره من الأماكن المقدسة الإسلامية، وهي -أي القدس- بالنسبة للمسيحيين على اختلاف طوائفهم تشغل مكانة هامة، فهي المكان الذي هبط به السيد المسيح ونشر فيه رسالته.
وتشمل مجموعة الكنائس والمعابد والأديرة المقدسة المرتبطة بالرسالة المسيحية، على أن مكانة القدس الروحية والدينية تفوق بكثير مجرد الآثار والأبنية والمعالم الدينية التي تزخر بها المدينة المقدسة، والتي يحج إليها المسلمون والمسيحيون واليهود.
حيث تمتد هذه المكانة لما هو أبعد من ذلك، أي إلى أعماق الروح الإنسانية التي شهدت في المدينة المقدسة مولد المثل الأخلاقية السامية، والقيم الروحية الرفيعة، المتمثلة في الإخاء والمساواة والتسامح بين بني الإنسان، إذ يضم ترابها رفات القديسين والشهداء والأبطال وأهل العلم والفقه والحكمة، منها انطلقت دعوة المسيحية للسلام والمحبة، وفيها وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتحها المسلمون العهد العمري.
وهي وثيقة الأمان المعروفة بهذا الاسم، والتي كتبها عمر بن الخطاب للبطريرك صفرونيوس عام 15 هجرية – 636 ميلادية، وفيها أعطى المسلمون الطوائف غير الإسلامية بالمدينة الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم وكنائسهم ونظمهم القضائية سواء كانوا يهوداً أم مسيحيين، وسبقت هذه الوثيقة التاريخية ظهور القانون العام ومواثيق حقوق الإنسان والأقليات بعدة قرون.
بيد أن مطالعة أولية لتاريخ القدس أو بيت المقدس، وبصفة خاصة قسماته البارزة، تظهر بجلاء أن المدينة المقدسة كان مقدراً لها عبر التاريخ- أي تاريخ القدس الذي يقدر في بعض الدراسات بثمانية وثلاثين قرناً- أن تدفع ثمن تفردها وخصوصيتها تارة بسبب موقعها الجغرافي المتميز منذ إنشائها على يد اليبوسيين بزعامة ملكهم «سالم اليبوسي»، وعرفت المدينة باسمها الكنعاني «أور سالم» أو مدينة السلام وأسماها العهد القديم «أورشليم».
وتارة أخرى بسبب الصراعات بين القبائل الكنعانية والعبرانية وفراعنة مصر وملوك بابل وأشور على الماء والكلأ والسيطرة والنفوذ، وتارة ثالثة بسبب مكانتها الدينية والروحية؛ ونتيجة لهذه الأسباب منفردة أو مجتمعة عرفت القدس الحصار عدة مرات وعرفت العديد من الغزاة والفاتحين بل تعرضت للدمار عدة مرات. فلم تعرف مدينة السلام إلا القليل من السلام!
إلا أن أخطر حلقات الغزو والحصار للمدينة المقدسة هي الحلقة الصهيونية اليهودية التي لا تزال ترزح تحت نيرها والتي بدأت منذ بداية القرن العشرين والسنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر التي شهدت ميلاد الحركة الصهيونية، وذلك بسبب علاقات التحالف المعلنة والمضمرة بين هذه الحركة وبين نظام القوى السائد في أوائل القرن وقصور حركة التحرر العربية لظروف شتى عن بلوغ أهدافها المشروعة في بناء الاستقلال وتحرير فلسطين والقدس.
ونظراً لمكانة القدس الدينية العالمية، فقد حرص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 بإفراد مكانة خاصة للمدينة المقدسة، حيث نص هذا القرار على إقامة دولة يهودية وأخرى عربية، وأن تحظى المدينة بوضعية دولية خاصة تحت بند Corpus Sepratum، ولم تعترف الجمعية العامة ولا مجلس الأمن بشرعية وقانونية القرارات التي اتخذتها "إسرائيل" بشأن المدينة المقدسة لا قبل عام 1967 ولا بعد ذلك التاريخ، واعتبرت الآثار الناجمة عن هذه القرارات باطلة ولاغية.
ويثير التعريف بالموقف اليهودي الصهيوني من السيادة على القدس بعض المشكلات ذات الطبيعة المنهجية الإشكالية، والتي يحسن -قبل بدء هذه المعالجة- إبرازها وتشخيصها، على نحو يسمح بإزاحة اللبس والغموض اللذين يحيطان بهذه المسألة، ويمكننا من تحديد موضوع هذه الدراسة بطريقة عملية وبناءة.
وأولى هذه المشكلات المنهجية التي يثيرها التعريف بالموقف اليهودي والصهيوني، من السيادة على مدينة القدس، هي صعوبة عزل موقف الحركة الصهيونية التي قدمت نفسها منذ البدء كحركة اليهود القومية، عن موقف القوى الاستعمارية الغربية الأوروبية آنذاك، وتطلعها للسيطرة على العالم غير الأوروبي بما في ذلك العالم العربي والمشرق العربي، وفلسطين والقدس في القلب منه، أو بعبارة أخرى صراع الغرب - الشرق في طور المرحلة الاستعمارية التي بدأت عندما تمكنت أوروبا من تصفية حروبها الدينية واستوعبت النظام الجديد الذي خلقته الثورة الفرنسية.
أما ثاني هذه المشكلات فتتعلق بشرعية التمييز بين الموقف اليهودي والموقف الصهيوني من القدس والسيادة عليها، بل أيضاً شرعية التفرقة بين اليهودية والصهيونية بشكل عام.
وأما ثالث هذه المشكلات فينصرف إلى التفرقة بين الموقف اليهودي والصهيوني من القدس قبل نشأة "إسرائيل" أي قبل عام 1948، وبين الموقف اليهودي والصهيوني من السيادة على القدس بدءاً من تمكن "إسرائيل" من احتلال القدس الغربية أو القدس الجديدة خلال حرب عام 1948.
ذلك أن هذا الموقف قبل عام 1948 وإعلان الدولة كان مجرد تصور نظري سياسي حول كيفية تدعيم الوجود اليهودي في مدينة القدس العربية ضمن الخطة الصهيونية لإقامة الدولة، هذا في حين أن السيادة تتعلق بالممارسة العملية للصلاحيات الإدارية والتشريعية والقانونية في القدس، ولم يكن من الممكن الحديث عن السيادة قبل نشأة "إسرائيل" كدولة واحتلالها لـ"القدس الغربية" في عام 1948 واحتلال شطرها الشرقي -أي "القدس الشرقية"-خلال عدوان عام 1967.
عبد العليم محمد