دولي
ما بعد اغتيال فقها.. دلالات الموقف وجسامة التحديات
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 03 جوان 2017
… تلك حقيقة بدهية بلا ريب، لكن أجهزة أمن حماس المختصة بملاحقة العملاء والعناصر المتشددة على السواء لم تعمل كما ينبغي عمله، ولم تكن على مستوى التحدي خلال الأشهر القليلة الماضية.
وبينما تراخى أمن حماس في مجال ملاحقة العملاء، فقد باشر حملات أمنية متعاقبة ضد العناصر المتشددة، بيد أن هذه الحملات أغفلت أعدادا لا بأس بها داخل وخارج صف حماس التنظيمي.
ومن بينهم المتهم المباشر باغتيال الشهيد فقها الذي قتل أعدادا كبيرة من عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية إبان أحداث الانقسام عام 2007 دون حسيب أو رقيب من قادته في كتائب القسام، قبل أن يتم فصله لأسباب أخلاقية وسلوكية، لينضم من بعد إلى إحدى الجماعات المتشددة متخذا إياها غطاء لسلوكه المنحرف، دون أية بادرة محاسبة أو مراجعة كانت.
وحتى اللحظة؛ فإن أمن حماس -الذي فتح أعينه جيدا على العملاء وخطرهم الداهم- ما زال بعيدا عن تطهير صف حماس الداخلي من ذوي الرؤى المتشددة والفكر المنحرف، مما يُبقي المخاوف قائمة إزاء أية أعمال مُخلَّة أو سلوكيات شاذة مستقبلا.
أما العبر المستفادة فتؤكد أولاها أن حماس استوعبت العديد من الدروس والعبر عقب عملية الاغتيال، إذ أعادت صياغة رؤيتها وإجراءاتها الأمنية بما يتناسب مع حجم الخطر الإسرائيلي المتربص، وحاولت سد وتلافي الثغرات التي عانت منها منظومتها الأمنية طيلة الأشهر الماضية.
وما زال أمام أمن حماس العديد من الخطوات والإجراءات والاحتياطات الأمنية الواجب اتباعها لضمان استخلاص كافة العبر، وحماية الجبهة الداخلية لقطاع غزة من يد العبث الأمني الإسرائيلي.
وتتمثل العبرة الثانية في اليقين بأن الفلسطينيين قادرون على التصدي للاحتلال، ومواجهة مخططاته وإجراءاته الأمنية بنوع من الكفاءة والاقتدار.
فلا يخفى أن العمل الأمني والاستخباري الإسرائيلي يحتل مكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والدولي، وأن العمليات والضربات الأمنية الإسرائيلية حازت شهرة واسعة في كافة أنحاء العالم، بسبب دقة تخطيطها وسلامة تنفيذها في معظم الأحيان، مما يجعل القدرة على مواجهتها وكشف أسرارها وفك شيفرتها أمرا ذا بال يُعتدّ به في الأوساط الأمنية العريقة.
وتبدو العبرة الأخيرة من أخطر ما يكون، إذ إن عملية اغتيال فقها أرسلت إشارات دقيقة ورسائل واضحة حول مدى صعوبة المرحلة القادمة، وطبيعة المفاجآت التي يمكن أن يحملها الصراع المفتوح مع الاحتلال.
في أروقة الأجهزة الأمنية لحماس باتوا يدركون أن المرحلة القادمة حبلى بالمفاجآت، وأن توسّع وتطوّر التكتيكات الأمنية الإسرائيلية -التي تجلت في اغتيال فقها- له ما بعده، وهو ما دفعهم إلى فتح صفحة أمنية جديدة تطوي ثغرات الإهمال والتقصير القديمة، وتستعد لمواجهة أشكال التحديات الأمنية الإسرائيلية المتوقعة بفهم جديد وروحية جديدة منبثقة من خطورة المرحلة الراهنة.
لا يختلف اثنان في أن عملية اغتيال فقها شكّلت نقطة فارقة في السلوك الأمني الإسرائيلي تجاه حماس بغزة، وأن أهل البصيرة والدراية الأمنية والسياسية يوقنون بأنها تشكل نقطة البداية في إطار مخطط مرسوم يتم تنفيذه بعناية فائقة، للإثخان في حماس وضرب جبهة غزة الداخلية التي غلب عليها الاستقرار الأمني عقب حرب عام 2014.
فمنذ أن وضعت هذه الحرب أوزارها؛ رصدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تطورا كبيرا في القدرات العسكرية لحماس، ومع كل يوم يمرّ كانت المؤسستان السياسية والأمنية في "إسرائيل" تشتعلان بهواجس ومخاوف -لا حصر لها- من طبيعة المعركة القادمة مع حماس، في ظل تطور أدائها وقدراتها العسكرية.
"لا يقاس نجاح حماس في مواجهة الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة بمدى قدرتها على ضبط العملاء المنفذين وكشف ملابسات الحادثة، إذ لا يضير الإسرائيليين كثيرا التضحية ببعض عملائهم في سبيل تصفية رؤوس عسكرية فلسطينية كبيرة من الوزن الثقيل، بل تقاس بمدى قدرة حماس على منع أي عملية قبل وقوعها"
ولطالما أدلى قادة الاحتلال بدلوهم -تحذيرا وتحريضا للمجتمع الدولي- بشأن الاستعدادات والتجهيزات العسكرية لحماس التي تتطوع الحركة في كشف بعضها بشكل مجاني في بعض الأحيان، ولطالما هيمن عليهم القلق العميق جراء المثابرة العالية التي تتمتع بها حماس في مضمار تطوير بنيتها وأدواتها العسكرية، والتي أضفت عليها "إسرائيل" مبالغات مهولة لأسباب سياسية لا تخفى على أحد.
ترافق ذلك مع محاولات بالغة الجدية لإنعاش واستنهاض العمل العسكري لحماس في الضفة الغربية الذي تضرر كثيرا بسبب الملاحقة الأمنية الإسرائيلية ونظيرتها الفلسطينية، وهو ما بدت تباشيره في بعض الخلايا العسكرية التي تم كشفها في العامين الأخيرين، والتي أثبتت مسؤولية الشهيد مازن فقها في تمويلها والإشراف عليها.
من هنا قررت إسرائيل انتهاج إستراتيجية أمنية جديدة في التعامل مع حماس والحد من تعاظم خطر قوتها العسكرية، دون أن يعني ذلك إسقاط الخيار العسكري المباشر.
وتتمثل الإستراتيجية في اعتماد أسلوب الاغتيالات الغامضة النظيفة لقادة وكوادر عسكريين من حماس يتم انتقاؤهم بعناية بالغة لإجهاض التوجهات العسكرية النشطة لحماس في الضفة كما في حالة الشهيد فقها، والعمل على إشغال حماس عن تطوير قدراتها العسكرية، واستنزاف تفكيرها وجهودها ومقدراتها في ملاحقة منفذي عمليات الاغتيال والكشف عنهم.
ورغم قدرة أجهزة أمن حماس على كشف حيثيات وملابسات عملية اغتيال فقها، فإن التعقيدات التي صاحبت تنفيذ العملية ونمّت عن احترافية أمنية عالية، أربكت حماس وشغلتها وقتا طويلا، ما يشير إلى نجاح إسرائيلي واضح ومزدوج، تمكنت من خلاله إسرائيل من تصفية أحد أخطر أعدائها، في ذات الوقت الذي شغلت فيه حماس ومستوياتها السياسية والأمنية والعسكرية قرابة شهر ونصف شهر.
لا يقاس نجاح حماس في مواجهة الإستراتيجية الأمنية الجديدة بمدى قدرتها على ضبط العملاء المنفذين وكشف ملابسات الحادثة، إذ لا يضير الإسرائيليين كثيرا التضحية ببعض عملائهم في سبيل تصفية رؤوس عسكرية فلسطينية كبيرة من الوزن الثقيل، بل تقاس بمدى قدرة حماس على منع أي عملية قبل وقوعها، وتوقّي كافة المحاولات الإسرائيلية لهزّ وضرب جبهة غزة الداخلية.
ما ينبغي لحماس أن تنتبه له هو أن نجاحها في كشف ملابسات عملية اغتيال فقها قد يسهم في زيادة الحافزية الأمنية الإسرائيلية لتنفيذ عملية أخرى قريبة، لإدخال حماس في دوامة من الانشغالات وإثبات التفوق الأمني الإسرائيلي.
وباختصار، فإن حماس أمام تحديات أمنية متعاظمة خلال المرحلة القادمة لا تمكن معالجتها والتصدي لها بشكل ترقيعي بحت، وما لم ترتقِ إلى مستوى الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة وتكبح جماحها الداهم وفق أصول جذرية، فإنها ستخسر كثيرا من الكوادر والخبرات والجهود والأوقات، في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى كل نَفَسٍ مقاوم وكل قطرة جهد وكل ذرة خبرة، في إطار صراعها المفتوح مع الاحتلال.
مؤمن بسيسو