دولي

رمضان في السجن.. الحُجُب إذا انكشفت

القلم الفلسطيني

 

 

قال أحدهما للآخر: "ماذا تفتقد؟"، فردّ عليه صاحبه: "صلاة الجمعة في المسجد". كانا سجينين سياسيين، يلفّهما القهر. حرمهما سجانهما من صلاة الجماعة في الغرفة، وبالتأكيد إن كان الأمر كذلك، فإنه سيحرمهما من صلاة الجمعة، بعد وقت سمح لهم مدير السجن بصلاة الجماعة في الغرفة، ولكن مَنْع صلاة الجمعة ظلّ قائمًا. تنقل بين أربعة سجون في ذلك الاعتقال، وطوال السنوات الثلاث التي توزّعت على تلك السجون، لم يصلّ الجمعة ولو مرة واحدة.

 عاد وقال الصاحب لسائله: "هل تعلم؟! حتى لو سُمح لنا بصلاة الجمعة هنا في هذا السجن، فإن شوقي لصلاة الجمعة في المسجد سيظلّ على حاله".. كان أحسن تعبير يدلّ به على شوقه ذاك قوله إنه عطشان لصلاة الجمعة في المسجد.

 لا يذكر أنه كان يجد في نفسه تلك البهجة بالجمعة من قبل، ربما لأنه غالبًا يميل للعزلة والانطواء، ويضيق بالجموع الكبيرة؛ حتى وإن كُتب عليه أن يكون في الناس إمامًا وخطيبًا. كان وهو يفحص نفسه باستمرار، ويستكشف طبائعها، يتساءل دائمًا، لأي شيء جُعِلَت حياتي بالفعل وفي الواقع أقرب لذلك الذي يمسك "عنان فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه"، بينما الأحب إليّ أن أكون كذلك الذي "في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير".

 "إنه السجن يا رفيقي".. "ربما تقول هو الحرمان. قد يكون، لكن؛ هل تعلم؟! لست واثقًا أن الأمر محض حرمان.. هذا الحرمان قد يكون مرآة صادقة للجمال، وللسعادة. المحرومون أكثر الناس حساسية، وهم بذلك أكثر النّاس قدرة على رؤية المحجوبات.. دائمًا ما أتذكر يُتم بعض أنبياء الله، والله الذي هو ﴿أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ما كَتب عليهم اليُتم عبثًا.. هذا السجن قد يرفع الحُجُب عن النّعم التي كنّا نعيشها ولا نُحسّ بها".

 ضحك الأول، ثم وكأنه غاب، نظر، بعد حين، بعينين شاردتين، ولكنهما عميقتان، وقال: "لا أقول لعلك مُحِقّ. ولكنك مُحِقّ".

 تذكر أحدهما نفسه حينما كان في زنازين التحقيق السرّي في عكّا، لا يذكر الآن كيف عرف أنها عكّا، ولكنه قد عرفها دون أن يراها، عرف رائحتها التي لم يشمّها من قبل. عرف المدينة التي حلم بها، ودخلها لأول مرّة، وليس واثقًا أنها لن تكون الأخيرة. وحيدًا غريبًا ليس معه أحد، ولا يدري أحدٌ أين هو، سوى أن ضباط المخابرات يتناوبون على التحقيق معه، في كل يوم يأتيه محقق جديد من مركز تحقيق "المسكوبية" بالقدس.. المسافة طويلة بين القدس وعكّا.. شعور غامض تختلط فيه الفرادة بالوحدة بانتصار خَفِيّ.

 الجوّ صيف، والرطوبة عالية.. يتعرّى، من شدّة الحرّ، بما لا يخلّ بشرط الصلاة، يأنس بالصلاة، انتظارًا لجديد كل يوم، لمحقق كل يوم، وفي الأثناء يستريح، يراقب حركة صرصارين داخل الزنزانة.. قَتَلَ أحدهما، وكان إذا شرع في الصلاة طار عليه الصرصار المتبقي.. "هل ينتقم لصاحبه".. هل يتوهم أن أحد الصرصارين كان ينتقم لصاحبه؟

 "وكأنني أسمع الأذان لأول مرّة في حياتي".. فقط في صلاة الفجر كان يتسلل إليه في زنزانته صوت المؤذن، سكون عكّا كان جسر السكينة إليه، "كان يبدو لي وكأنه أذان مُرسل إليّ"، "ولم لا؟! أليس كل شيء بأمر الله؟!"، "هل تعلم؟! لو جئت أصف لك ذلك الآذان فأنا عاجز، وكأنه صوت من الغيب، لم تتعرّف اللغة إلى مثله من قبل.. حينها تذكرت كتاب «الهواتف» لابن أبي الدنيا.. هل يكون صوت الأذان ذاك هاتفًا مرسلاً إلي؟!".

 ثلاث مرات صلّى التراويح منفردًا؛ في الاعتقال الذي دار فيه حواره مع صاحبه هذا.. ربما لم يقل لصاحبه أنه عطشان لصلاة التراويح.. هل هي عذبة باردة إلى هذا الحدّ غير أن معافسة الحياة حجبت عنه عذوبتها؟! حتى إذا كان السجن رفع عن قلبه الحجاب؟! أم هو محض الحرمان؟!

 كان يصلّي كثيرًا وهو في مهد اعتقاله السياسي الذي طال كثيرًا، ينشغل رفقاء الغرفة بالحديث وشرب القهوة، بعضهم لم يكن سياسيًّا، لكنهم كلهم يفترشون الأرض سَمَرًا، وهو يصلّي على فرشته، ليس ثمة سبيل غير ذلك، يدعو في قيام رمضان الذي يصلّيه وحده، يدعو ربه بإلحاح، وهو يعلم من نفسه أن الإجابة مؤجّلة، كانوا ينامون إلى العصر، ومن يصلّي منهم يجمع إليها الظهر متأخرًا.. كلّهم خرجوا، وظلّ في السجن وحده.. "هل تعلم يا صديقي قد يكون السجن حجابًا أيضًا".

 لما فارق صاحبه هذا، وصار في سجن آخر، أخذ الحجاب يرتفع من جديد، وبدأ يعطش لصلاة التراويح، صلّاها منفردًا لعامين متتاليين في غرفته الضيقة الصغيرة المعتمة الفقيرة من أي متاع، وتذكر تلك المرّة، لما كان مع أصحابه في سجن "عوفر"، وأحيوا ليلهم كله بالصلاة، يصلّون مع معتقلي القِسْمَ التراويح، ثم يستقلّون بأنفسهم، يصلّي بهم إمامًا حتى وقت السحور.. في ذلك الاعتقال، ألحّ على ربّه بدعاء استجيب له.. ظلّت تلك الاستجابة سعادة تغمره حتى اللحظة.

 اعتقاله الأول كان في رمضان، كان فتى صغيرًا، صلّى مع الناس عشر ليال أو اثنتي عشرة ليلة من التراويح ثم اعتُقِل، صام لأول مرة في حياته داخل مراكز التحقيق، تسحّر وأفطر لأول مرة داخل مراكز التحقيق، صام مشبوحًا، صام مُعذَّبًا، كان الزمن شتاء، ولكنه عَطِش إلى صلاة التراويح، لحظة دخوله مركز التحقيق شعر بالعطش، صلّى على كرسي الشبح، وعلى الكرسي ارتفع الحجاب.. انطبعت في قلبه صور ما انطبعت من قبل.. غارت بعد ذلك مرات عديدة في الحُجُب.. تغور وتصعد.. والسجن يكشف ويحجب.

 

 

ساري عرابي

من نفس القسم دولي