دولي

إضراب الأسرى الفلسطينيين.. إلى أين؟

القلم الفلسطيني

 

 

تعد قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي معلماً أساسياً من معالم القضية الفلسطينية، وعنواناً بارزاً في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني؛ إذ للأسير الفلسطيني منزلة كبيرة في وجدان شعبه لما يمثله من قيمة معنوية ونضالية، كما غدا نموذجاً يُحتذى في الصمود والبطولة ومقاومة المحتل.

هذا عن مكانة الأسرى الفلسطينيين في وعي شعبهم ولدى الكثيرين من أمتهم. أما دولة الاحتلال، فرغم أنها تعتبرهم مجرد أفراد منحرفين، فإنها لا تسعى لإعادة تأهيلهم، بل تعتبر سجنها إياهم انتقاماً يستحقونه. وهذا ناتج عن نظرة عنصرية لا ترى في الفلسطينيين سوى مخربين، بل إنهم مخربون لا يستحقون الحياة أو إعادة التأهيل.

من هنا فلن يكون مستغرباً أن نرى دولة الاحتلال تشدّد إجراءاتها التعسفية بحقهم، وتقسو في تعاملها معهم، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وتخترع كل ما هو كفيل بإهانتهم وإذلالهم وكسر إرادتهم.

فلقد قُمع الأسرى طويلاً ومرات لا تحصى، وعانوا أشكالاً متعددة من الإذلال والإهانة، وظلت السجون الإسرائيلية دوماً -ومنذ لحظة إنشائها- وسائل عقابية قاهرة لأجساد الأسرى الفلسطينيين ونفوسهم.

إن كل هذه المحاولات الإسرائيلية إنما تهدف لصهر الوعي وغرس مفاهيم جديدة في أعماق الفلسطينيين، تقضي بعدم جدوى المقاومة. ولعل الأخطر، هي تلك المحاولات التي تهدف للإساءة إلى المكانة القانونية للأسرى الفلسطينيين وتجريم كفاحهم، وتقديمهم للعالم على أنهم "إرهابيون"، في إطار السعي لتجريم كفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة.

لقد أدرك الأسرى خطورة الأهداف الإسرائيلية بعدما تذوقوا مرارة الأوضاع وقسوة الإجراءات على أجسادهم، والتي لم يعد بالإمكان التعايش معها، وتحمل قسوة الواقع، أو الصمت والصبر أمام ما يُمارس ضدهم.

لهذا فقد لجأ الأسرى في 17 أبريل/نيسان الجاري إلى الخيار الأخير بالإعلان عن بدء الإضراب المفتوح عن الطعام، وذلك بعد استنفاد الخيارات الأخرى، في ظل تقاعس المجتمع الدولي وعجز مؤسساته الحقوقية والإنسانية عن إلزام دولة الاحتلال باحترام الاتفاقيات والمواثيق الدولية في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجونها ومعتقلاتها.

لم يكن الإضراب عن الطعام يوماً هو الخيار الأول أمام الأسرى، كما لم يكن هو الخيار المفضل لديهم، وليس هو الأسهل والأقل ألماً ووجعاً، وإنما هو الخيار الأخير وغير المفضل، وهو الأشد إيلاماً والأكثر وجعاً، فهم لا يهوون تجويع أنفسهم، ولا يرغبون في إيذاء أجسادهم، كما لا يرغبون في أن يسقط منهم شهداء في السجون.

لكنهم يلجؤون لهذا الخيار مضطرين ورغما عنهم؛ تجسيداً لثقافة المقاومة في انتزاع الحقوق المسلوبة وصوناً لكرامتهم المهانة، ودفاعاً عن مكانتهم ومشروعية مقاومتهم للمحتل.

لقد قيل منذ القدم إن الجوع كافر، لكن هناك مِن الفلسطينيين مَن جعلوا من الجوع ثائراً خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وبناءً على ذلك فلقد خاض الأسرى منذ عام 1967 عشرات الإضرابات عن الطعام، وكان سجن عسقلان شهد في يوليو/تموز عام 1970 أول إضراب جماعي ومنظم يخوضه الأسرى، واستشهد خلاله الأسير عبد القادر أبو الفحم الذي يُعتبر أول شهداء الإضرابات عن الطعام.

وقد أحدث هذا الإضراب وهذه الشهادة تأثيراً كبيراً على واقع الحركة الأسيرة فيما بعد، وشكّل حافزاً للأسرى للاستمرار على ذات النهج، فتوالت الإضرابات بعد ذلك في إطار الصراع الدائرة رحاه في ساحات السجون كافة، وقدم خلالها الأسرى تضحيات جساماً وسقط من بينهم شهداء: راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحق مراغة وحسين عبيدات.

ان الإضراب عن الطعام الذي بدأه الآن نحو 1500 أسير فلسطيني هو امتداد لخطوات نضالية سابقة ويجسد ذات الثقافة، ولا يختلف في دوافعه عما سبقه من إضرابات كثيرة حتى وإن تعددت المطالب، فالمضمون واحد: صون الكرامة ورفض الإهانة، وانتزاع الحقوق وتحسين الشروط الحياتية، والدفاع عن الوجود والهوية وتعزيز المكانة القانونية للأسرى ومشروعية نضالهم.

وعلاوة على ذلك؛ يحاول الأسرى بإضراباتهم تحريك المياه الراكدة وإثارة قضيتهم وإعادتها إلى الواجهة من جديد، وتسليط الضوء على معاناتهم ولفت الأنظار إلى ما تشكله قضيتهم في خضم الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.

لقد تقدم الأسرى بجملة من المطالب، وهي في حقيقة الأمر حقوق كفلها لهم القانون الدولي، وجزء منها كان موجوداً من قبل بعدما انتزع بالإضرابات، ولكن إدارة السجون عادت فصادرتها، وجزء آخر يرى الأسرى أنه بات من الضروري النضال لانتزاعه، بدءاً بإنهاء سياسة العزل الانفرادي والاعتقال الإداري والإهمال الطبي، ووقف الإجراءات المهينة والمذلة بحق الأسرى الذكور والإناث.

ومروراً بتحسين شروط الزيارات العائلية، وتوفير هاتف عمومي لغرض التواصل الإنساني مع الأهل، والسماح بإدخال الأطفال واحتضانهم والتصوير معهم أثناء الزيارة، وإدخال الكتب والصحف والملابس، والسماح بمشاهدة بعض القنوات الفلسطينية والعربية لكسر العزلة المفروضة عليهم، وإنشاء مرافق انتظار ملائمة للأهل تحفظ لهم كرامتهم خلال انتظارهم على بوابات السجون.

وليس انتهاء بالمطالبة بتوفير العلاج المناسب والأدوية اللازمة للأسرى المرضى وهم كُثر، وتأمين معاملة إنسانية وأماكن لائقة للأسرى أثناء تنقلاتهم، وإعادة التعليم عبر السماح بتقديم الثانوية العامة (التوجيهي) والالتحاق بالجامعة العبرية المفتوحة.

وها هي بدأت المعركة وأشعلت إدارة السجون حربها ضد المضربين مبكراً، وتزامنت معها تصريحات صدرت عن بعض وزراء حكومة الاحتلال، طالبوا فيها بإعدام الأسرى وعدم تقديم العلاج لهم وتركهم يضربون حتى الموت.

وعلى الجانب الآخر؛ فالمطلوب فلسطينياً -ومن المستويات المختلفة- هو التعامل مع الإضراب بمسؤولية عالية وجماعية، وأن يكون الجميع على أهبة الاستعداد لما قد يحدث في السجون من تطورات.

 

عبد الناصر عوني فروانة

من نفس القسم دولي