دولي

إضراب الأسرى الفلسطينيين.. إلى أين؟

القلم الفلسطيني

 

 

تعد قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي معلماً أساسياً من معالم القضية الفلسطينية، وعنواناً بارزاً في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني؛ إذ للأسير الفلسطيني منزلة كبيرة في وجدان شعبه لما يمثله من قيمة معنوية ونضالية، كما غدا نموذجاً يُحتذى في الصمود والبطولة ومقاومة المحتل. من هنا فلن يكون مستغرباً أن نرى دولة الاحتلال تشدّد إجراءاتها التعسفية بحقهم، وتقسو في تعاملها معهم، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وتخترع كل ما هو كفيل بإهانتهم وإذلالهم وكسر إرادتهم. لقد أدرك الأسرى خطورة الأهداف الإسرائيلية بعدما تذوقوا مرارة الأوضاع وقسوة الإجراءات على أجسادهم، والتي لم يعد بالإمكان التعايش معها، وتحمل قسوة الواقع، أو الصمت والصبر أمام ما يُمارس ضدهم. لهذا فقد لجأ الأسرى في 17 أبريل/نيسان الجاري إلى الخيار الأخير بالإعلان عن بدء الإضراب المفتوح عن الطعام، وذلك بعد استنفاد الخيارات الأخرى، في ظل تقاعس المجتمع الدولي وعجز مؤسساته الحقوقية والإنسانية عن إلزام دولة الاحتلال باحترام الاتفاقيات والمواثيق الدولية في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجونها ومعتقلاتها. لم يكن الإضراب عن الطعام يوماً هو الخيار الأول أمام الأسرى، كما لم يكن هو الخيار المفضل لديهم، وليس هو الأسهل والأقل ألماً ووجعاً، وإنما هو الخيار الأخير وغير المفضل، وهو الأشد إيلاماً والأكثر وجعاً، فهم لا يهوون تجويع أنفسهم، ولا يرغبون في إيذاء أجسادهم، كما لا يرغبون في أن يسقط منهم شهداء في السجون. لكنهم يلجؤون لهذا الخيار مضطرين ورغما عنهم؛ تجسيداً لثقافة المقاومة في انتزاع الحقوق المسلوبة وصوناً لكرامتهم المهانة، ودفاعاً عن مكانتهم ومشروعية مقاومتهم للمحتل. وقد أحدث هذا الإضراب وهذه الشهادة تأثيراً كبيراً على واقع الحركة الأسيرة فيما بعد، وشكّل حافزاً للأسرى للاستمرار على ذات النهج، فتوالت الإضرابات بعد ذلك في إطار الصراع الدائرة رحاه في ساحات السجون كافة، وقدم خلالها الأسرى تضحيات جساماً وسقط من بينهم شهداء: راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحق مراغة وحسين عبيدات. ان الإضراب عن الطعام الذي بدأه الآن نحو 1500 أسير فلسطيني هو امتداد لخطوات نضالية سابقة ويجسد ذات الثقافة، ولا يختلف في دوافعه عما سبقه من إضرابات كثيرة حتى وإن تعددت المطالب، فالمضمون واحد: صون الكرامة ورفض الإهانة، وانتزاع الحقوق وتحسين الشروط الحياتية، والدفاع عن الوجود والهوية وتعزيز المكانة القانونية للأسرى ومشروعية نضالهم. لقد أعلنت كافة الفصائل دعمها للإضراب، وتشارك فيه بتفاوت على شكل مجموعات وأفراد ورموز، وهي خطوة -رغم عدم شموليتها- كان الأسرى في أمس الحاجة إليها بعدما افتقدوها سنوات طوالا. إلا أن الغالبية العظمى من الأسرى المضربين اليوم ينتمون إلى "حركة فتح" التي تشكّل ما يزيد على 50% من إجمالي الأسرى في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وكان من أعلن انطلاق الإضراب وقائمة المطالب هو القائد في "فتح" والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني مروان البرغوثي، الذي يتمتع بحضور قوي وشعبية جارفة. ورُبّ سائل يتساءل عن أسباب اقتصار المشاركة في الإضراب الحالي على هذا العدد الذي يصل إلى 1500 أسير فقط من بين نحو 6500 أسير، وكذلك عدم مشاركة كافة عناصر وقيادات "فتح" في السجون الذين يتجاوز عددهم 3500 أسير، رغم أن "فتح" هي من تقود الإضراب وهي القوة الأساسية المحركة له. لكن الحقيقة المرة التي يجب أن يدركها الجميع هي أن الأوضاع الداخلية في حركة "فتح" ليست متماسكة -بالقدر الذي كانت عليه في الماضي- بسبب عوامل كثيرة. ثم إن الحركة الأسيرة بمكوناتها المختلفة، لم تعد قوية كما كانت عليه قبل "اتفاق أوسلو" الذي أرخى بظلاله السلبية على تماسكها.  كذلك لم تعد الحركة الأسيرة موحدة كما كان حالها قبل "الانقسام" الفلسطيني/الفلسطيني الذي امتدت آثاره لتمزق وحدتهم. وهذا تجلى بشكل واضح في الإضرابات الفردية التي عكست فشل الجماعة في اتخاذ قرارات موحدة. وما زال الأسرى يبحثون عن آليات تُعيد للحركة الأسيرة تماسكها ووحدتها، كما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي. وبإصرار شديد يواصل الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام رغم الظروف الصعبة التي يمرون بها، وحجم التحديات الكبيرة التي يتعرضون لها، وقسوة الإجراءات التي تُقترف بحقهم، في ظل استمرار حالة الحراك الخارجي وحملات الدعم التي واكبت الإضراب منذ يومه الأول، والاصطفاف الرسمي والشعبي المساند، ووقوف حركة "فتح" بمكوناتها المختلفة دعماً لهم. لكن ثمة مخاوف مشروعة لدى الكثيرين، ولعل أبرزها: عدم قدرة حركة "فتح" على تجاوز ما يعوق مشاركة كافة قياداتها وعناصرها في كافة السجون. وعدم دفع الفصائل الأخرى بثقلها في الإضراب، وبقاء حركة "حماس" خارج المشاركة. كثير من الأزمات تعصف بالساحة الفلسطينية هذه الأيام، وربما لن يكون آخرها الخصم من لكن وعلى الجانب الآخر؛ فالمطلوب فلسطينياً -ومن المستويات المختلفة- هو التعامل مع الإضراب بمسؤولية عالية وجماعية، وأن يكون الجميع على أهبة الاستعداد لما قد يحدث في السجون من تطورات. فالمعركة التي يخوضها الأسرى في السجون هي معركة الكل الفلسطيني، إذ المستهدف ليس الأسير الفلسطيني فحسب ولا عملياته الفدائية ضد المحتل فقط، بل المستهدف هو الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ومشروعية كفاحه من أجل دحر الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال.

 

 

عبد الناصر عوني فروانة

من نفس القسم دولي