الحدث

الحوار بين الجزائريين يعيد ترتيب المعادلة السياسية

يعتبر نقطة الانطلاق إلى الحل الذي سيتوج أهداف الحراك الشعبي يوم 12 ديسمبر

أفرز الحوار الذي شكل محور اهتمام الجزائريين، في الأسابيع التي أعقبت الحراك الشعبي الذي عرفته الجزائر منذ 22 فيفري الماضي، معادلة سياسية جديدة في الجزائر، كانت إلى وقت قريب صعبة التحقق على أرض الواقع، غير أن توفر الإرادة لدى الخيرين في البلاد ساعد على إرساء قواعده، ودفع بمختلف أطياف المجتمع للانخراط فيه دون تردد إلا على أقلية فضلت اللعب على وتر التشويش لتحقيق مآرب أخرى لا تتوافق مع ما يطمح له الجزائريون، وكانت الفاعلية التي ميزت من انخرط في مسعى الحوار نقطة فارقة جابه بها هؤلاء الفئة الأضعف، إذ لم ينخرط في الحوار الساسة والأحزاب والشخصيات الوطنية فقط، بل تعدى ذلك لعموم الجزائريين من حراكيين وطلبة جامعيين وشباب وخبراء في شتى المجالات، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني كل من موقعه، عمل منذ تلك الفترة على رسم الحلول المنشودة التي توصلنا إلى برّ الأمان الذي نترقبه أواخر السنة الحالية.

 بحثا عن نقطة الانطلاق إلى الحل الذي سيتوج أهداف الحراك الشعبي يوم 12 ديسمبر المقبل عبر استحقاق انتخابي يترقبه العالم أجمع، عقدت مئات الاجتماعات بين عموم الجزائريين على مدار أسابيع، وتمحورت النقاشات خلالها حول آليات الوصول للهدف المنشود وهو اختيار رئيس للجمهورية يكون نتاج صناديق الاقتراع وفقط. هذه النقاشات دفعت بالجميع، بما في ذلك السلطة للعمل على تأطير هذا المسعى من خلال اقتراح شخصيات تقود حوارا رسميا يساعد على بلورة المطالب والانشغالات وتستجيب لتطلعات الجميع، غير أنه وعكس ما كان يحدث سابقا، ترك خيار تركيبة الهيئة للحراكيين والسياسيين والأحزاب وفعاليات المجتمع المدني، الذين بادروا باقتراح أسماء لم تلق إلا القبول، ما ذلل المصاعب وسهل الوصول للمسعى المنشود الذي خلص فيما بعد إلى وضع اللبنات الأولى لثمار هذا الحراك، عبر ندوات خاضتها لجنة كريم يونس الذي بهيئته تخلص المشهد السياسي الجزائري من إشكالية الرأي الواحد، إلى تصدر جميع الفاعلين للمشهد ومساهمتهم في بناء ديمقراطية حقيقية.

ويجمع المراقبون للمشهد السياسي الجزائري على أن هذا الحوار كان أهم آلية ستساهم مستقبلا في إرساء العمل الديمقراطي الذي ظل مطلوبا لسنوات عديدة، لاسيما أثناء الأزمات التي مرّت بها بلادنا، وكان التجاوب مع كل المبادرات أهم محطاته، فقلما قوبلت فكرة أو مبادرة بالرفض الأولي لها كما كان يحدث سابقا، ما جعل إشكالية تصدر المشهد من قبل فئة على حساب أخرى غائبا تماما.

 

    • من إشكالية الرأي الواحد إلى تصدر المشهد وبناء ديمقراطية حقيقية

وعن هذا الموضوع، يقول المحلل السياسي والناشط الجمعوي الأكاديمي، حسين حني، في تصريح لـ"الرائد"، أن هيئة كريم يونس التي قادت الحوار كان عملها شاملا لكل المحاور الرئيسية التي طرحت للنقاش، ما سهل التجاوب معها رغم النقائص التي لم تؤثر على قبول ما خلصت إليه الهيئة في نهاية عملها الذي دام أسابيع وجمع أكثر من 60 ألف شخصية من ساسة ورؤساء أحزاب ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني وطلبة جامعيين وممثلين عن الحراك الشعبي. ويجزم المتحدث أن جلوس الأحزاب خاصة تلك التي تعتبر محسوبة على تيار المعارضة في السابق والتوافق حول الخطوط العريضة للمقترحات التي تقدم بها من شاركوا في نقاشات الهيئة، كان نقطة فارقة ونجاحا أوليا لمسعى بدأ يحصد ثماره تدريجيا، ومع مرور الوقت كخلاصة لما خرج لأجله ملايين الجزائريون.

وأضاف حني يقول: "الحوار السياسي الذي عاشته الجزائر مؤخرا كان كطوق نجاة لحلحلة الأزمة التي تعرفها البلاد، بالنظر لما تحقق في المشهد من إنجازات لا يمكن إنكارها، خاصة ما تعلق بالتحضير للانتخابات الرئاسية المرتقبة بعد أسابيع".

كما اعتبر محدثنا أن أبرز ما حققه الحوار كان بناء جسر ربط بين فواعل الحراك الشعبي وبين شخصيات وازنة قادرة على بلورة أفكارهم على أرض الواقع، بالنظر إلى إشكالية رفض التأطير للحراك من قبل الجزائريين بالرغم من أهمية المسعى، لكن مع مرور الوقت ومع التجاوب الإيجابي مع ما جاء به عمل المنخرطين في الحوار، تشكلت قناعة لدى الجميع تتعلق بوجود توافق نسبي يمكنه أن يساعد على تخطي الصعوبات ومعالجة أي اختلالات قد يعرفها الطريق نحو الهدف المنشود، وهو اقتراع 12 ديسمبر المقبل، وبعده التأسيس لمرحلة جديدة في المشهد السياسي العام في البلاد، تبدأ من تلك اللحظة التي يختار فيها الجزائريون عن طريق اقتراع شفاف ونزيه وديمقراطي رئيسهم المرتقب.

واستذكر المتحدث فضائل الحوار المتعارف عليها أكاديميا، إذ يقول في هذه النقطة: "يعتبر التفاهم المتبادل بين طرفي حوار ما، أحد أهم المكاسب الأساسية التي يثمرها تبادل الأفكار بينهما، وهذه الحقيقة لا يمكن أن ينكرها أي عاقل، فإذا كان طرفا صراع يتشبثان بوجهات نظر متباينة يصعب التوفيق بينهما، فإن فتح قنوات للحوار بينهما يساهم في خلق مناقشات مثمرة وغنية، ما يتيح فرصاً لكل طرف كي يراجع مواقفه، ويعمل على محاولة فهم موقف الطرف الآخر. ومن ثم، التعرف عليه أكثر بصفته "العدو والخصم"، الشيء الذي يخلق نقلة نوعية في عملية تسوية تلك الصراعات في العديد من المجالات. وهذا التفاهم المتبادل هو ما تحتاجه اليوم أطراف الصراعات الدائرة في الشأن السياسي في العديد من دول العالم، وهو ما يمكن إسقاطه أيضا على الوضع السياسي القائم في الجزائر"، مضيفا أنه بفضل هذا النقاش تقدمنا بخطوات إيجابية نحو الهدف المنشود.

وفي السياق، أشاد الخبير الدستوري والمحلل السياسي، عامر رخيلة، في تصريحات لـ"الرائد"، بأهمية الحوار السياسي وتجربة الجزائر الأخيرة فيه، إذ يؤكد أنه كان فرصة حقيقية لإرساء ديمقراطية جديدة، ساعد المشاركون فيه عبر التنازلات والاستجابة للنداءات التي كانت تأتي من أكثر من طرف في تقريب الرؤى ووجهات النظر بين السلطة والسياسيين وفواعل الحراك الشعبي، وهو ما نتج عنه تحقيق شروط التوجه نحو الانتخابات التي كانت مطلبا ضروريا ما يدفعنا، يضيف المتحدث، للتأكيد على أن التغيير المنشود لا يكون إلا عبر المرور على طاولات التفاوض والحوار بغض النظر عن النتائج التي تحقق في النهاية.

ويؤكد بدوره المختص في علم الاجتماع الأستاذ المحاضر بجامعة الجزائر، الهادي سعدي، في تصريحات لـ"الرائد"، أن قبول الحوار والخوض فيه من قبل الجزائريين على مدار الأسابيع الماضية لم يكن بالأمر الهين أو السهل لاعتبارات عديدة، ترتكز من تجارب سابقة عاشها الجزائريون فيها على الهامش ولم ينخرطوا فيها بالشكل المطلوب وانحصر فقط بين المسؤولين الرسميين أو السياسيين ورؤساء الأحزاب وممثلين عنها، وأفرز ما أفرزه من نتائج كانت انعكاساتها واضحة منذ 22 فيفري الماضي، إذ لم يترك الشعب هذه المرة زمام المبادرة فقط لطرف واحد ووحيد، بل خاضوا معارك حقيقية في ساحات الحراك ومختلف الفضاءات التي أتيحت لهم للمبادرة من جهة، ومن جهة ثانية لتقديم وجهات الرأي والنقاش، خلصت في مجملها لتحقيق الهدف المنشود وهو إتاحة الفرصة لهم من أجل المساهمة في بناء جزائر الغد، وهو الذي كان، ما نما عندهم كما نصطلح عليه في علم الاجتماع بـ"الشعور بالتكامل والانتماء إلى الجماعة" وهو الشعور الذي لم يكن متاحا في السابق، بل كان الجميع يرى نفسه بأنه يعامل كقاصر ويوجد من هو وصي عليه ويأخذ زمام المبادرة عنه، وهو أمر لطالما حاولوا ملأه ولم تتح لهم الفرصة لذلك، إلا الآن مع ما أفرزه الحراك الشعبي وانتفاضة 22 فيفري.

وعرج بالمناسبة على فضائل الحوار خاصة فيما يتعلق بالشق السياسي لأهميته مقارنة بالمجالات الواسعة والمتعددة التي ترتكز في البحث عن الحلول التوافقية عليه، إذ يقول حول هذه القضية: "أن الاختلاف الذي يتحدث عنه البعض والذي حدث في مختلف مراحل الحوار السياسي هو في حقيقة حجز الزاوية، إذ ليس منطقيا أن يكون الحوار بين عدّة أطراف بعيدا عن الاختلاف وحتى التصادم، لأنه ليس منطقياً أن يكون الحوار بين عدة أطراف ليست بينها اختلافات تجاه القضايا موضع النقاش، فالتباين والاختلاف ضرورة من ضرورات الحوار السياسي".

ويجزم المتحدث أن أبرز ما يميز الحوار أنه في نهاية الأمر لا يخرج أي طرف خاسرا منه، بل تتم العملية بنقاش موسع بين كافة الأطراف هم جميعا رابحون فيه.

 

    • وللمنابر دور آخر !!

بدورهم انخرط الأئمة في الحوار ولم يغفلوا عن القيام بأدوار يمكن طرحها في هذه الزاوية، إذ يؤكد جلول حجيمي، رئيس نقابة الأئمة، في تصريح لـ"الرائد"، بالأدوار التي لعبها الأئمة لحثّ المواطنين على أهمية الانخراط فيما يحدث ببلادنا بل يجزم المتحدث أنه "واجب شرعي وقانوني"، ولأجل ذلك وضع المتحدث الأدوار التي قام بها الأئمة عبر المنابر وفي الخطب وحتى بعيدا عن هذا الإطار الرسمي لهم في خانة الحوار بالنظر للدور المنوط بهم في الأساس.

 

    • مواقف توافقية على الشبكة بشعار معركة الوعي تنطلق من هنا

وكان للوسائط الاجتماعية أو ما يطلق عليها "السوشيال ميديا" الدور البارز في تحرير معركة الوعي بالرغم من الاختلافات والنقاشات الحادة التي طبعت المتحاورين خلف الشاشة الزرقاء، سواء عبر الفايسبوك أو تويتر، إلا أن ذلك لم يمنع في الأخير كل طرف من إبداء رأيه والدفاع عنه ومحاولة إقناع الآخرين به بشعار "نختلف قبل أن نتفق" التي استند عليها الكثيرون. وفي هذا السياق، يقول الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي، حسين سرتاح، عبر مجموعة "حراك 22 فيفري"، أن شبكات التواصل الاجتماعي كان لها الدور الكبير في ترقية الحوار والنقاش بين عموم الجزائريين، خاصة فئة الشباب الذين كانوا بعيدين عن الخوض في مثل هذه الملفات في الفترة الماضية، وساعدت الصفحات والمجموعات التي تقدر اليوم بالآلاف في فتح نقاش واسع وغير محدود بين مختلف شرائح المجتمع دون أي تمييز أو إقصاء بشعار "خاوة/خاوة" الذي كان الركيزة الأساسية لأي باب نقاش يفتح. فمثلا عبر المجموعة التي يديرها رفقة بعض الناشطين من بينهم بطالون وموظفون وسياسيون وجامعيون وإعلاميون، أكد أن النقاط الرئيسية التي ارتكزوا عليها في مسعاهم هو حثّ الجميع على المبادرة بالحوار ومن ثمة معالجة الاختلالات التي تظهر في الشارع الجزائري تجاه كل ما يحدث، من خلال التركيز على إظهار حس وطني عال تجاه مسائل رئيسية تتعلق باستقرار البلاد وأمنه، والردّ على من يرفض الرأي الآخر انطلاقا من أفكار خاطئة أو أنه يتمسك بفكرته ويحاول فرضها على الآخرين دون اتاحة الفرصة لإبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر، لأنه يعتقد أن الاختلاف في الرأي لا يكون عائقاً وحاجزاً يمنع الأطراف من التواصل مع بعضها البعض، بل على العكس رفض الحوار وغياب التواصل هو الذي يزيد الأمور تعقيدا.

وعن تفاعل الجزائريين مع الحوار عبر الفضاء الأزرق، يقول المختص في تكنولوجيات الإعلام والاتصال، هشام بولحبال، في تصريح لـ"الرائد"، أن اليوم يمكن بضغطة زر واحدة الحصول على مئات الصفحات التي أفرد القائمون عليها وقتهم وجهدهم للتأكيد على الحوار وأهميته وأسسه أيضا، خاصة ما تعلق بمسألة احترام الرأي والرأي الآخر الذي يأخذ طابع الأهمية. وتأتي هذه المبادرات، حسب المتحدث، بعد أن أصبح كل ما ينشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال المواعيد الكبرى للبلاد يصنع رأيا عاما في الجزائر، وبعيدا عن صحة أو خطأ هذه الأخبار كان الضغط يأخذ بعدا آخر في المجتمع الجزائري وخاصة لدى فئة الشباب التي تتأثر كثيرا بما يروج هناك، من هذه المنطلقات بادر الكثير من الخيرين من شبابنا لمحاربة المحتوى المضلل عبر مبادرات للحوار خارج الإطار المتعارف عليه سابقا، وكانت النتيجة في الأخير عبارة عن مبادرات خصصت لترقية الحوار والدفاع عليه كشرط أساسي.

غانية توات

 

من نفس القسم الحدث