الحدث

تسريح العمال .... هذا ما تخفيه سياسة التقشف

اتساع دائرة المشاريع الاستثمارية الكبيرة لم تأتي بنتائج إيجابية على الطبقة الشغيلة

كمال رزيق: تجربة التسعينات من الصعب أن تتكرر مجددا في الجزائر

 

لم تكن تتصور الثلاثينية سعاد أن تجد نفسها بعد 3 سنوات من العمل في مؤسسة كبرى للاتصالات ضمن قائمة العمال المسرحين المحالين على البطالة، بعد قرار اتخذته الشركة يقضي بتسريح نحو 70 عاملا في نهاية 2015، للتقليل من نفقاتها إثر تأثر مداخيلها وتعاقداتها مع متعاملين آخرين ببدء الحكومة تطبيق خطط التقشف وتقليص فاتورة الاقتصاد الذي انعكس سلبا على عديد المؤسسات المرتبطة بالمنتجات التي مسها قرار تسقيف الاستيراد.

وتقول نادية إنها لم يخطر في بالها مطلقا أن تقوم المؤسسة التي اختارتها لإكمال حياتها المهنية فيها بالنظر إلى سمعتها واستثماراتها التي تتجاوز مئات ملايين الدولارات  بتخيير العمال بين الطرد أو القبول بالاستقالة الطوعية، مع أخذ مبلغ 700 ألف دينار كتعويض خدمة، لأنه لو خطر ذلك على بالها وقتها، لفضلت الالتحاق بمؤسسة عمومية تضمن فيها الاستمرار في العمل مهما كانت الظروف وعدم إدراجها في قائمة العمال المفصولين.

لكن رغم ذلك، يبقى حال نادية أفضل مما وقع لحميد ذي العشرين عام الذي كان يعمل متعاقدا مع مؤسسة لاستيراد إكسسوارات أجهزة الإعلام الآلى، حيث يقول في حديثه معنا وعلامات الحسرة بادية على ملامحه إن "الإجراءات التي رافقت خطط التقشف بتقليص الاستيراد دفعت بصاحب المؤسسة الصغيرة التي يعمل بها إلى التخلي عن هذا النشاط، بعد إجراءات تضييق الاستيراد وزيادة الرسوم، وأصبحت بين عشية وضحاها ضمن قائمة المسرحين من عملهم دون تعويض"،  والذين يعدون بالمئات بسبب إجراءات، التقشف مثلما يقول أستاذ الاقتصاد كمال رزيق.

 

نتيجة منتظرة

 

وبرأي رزيق، فإن عملية تسريح العمال التي قامت بها المؤسسات المعنية بتسقيف الاستيراد الذي مس 22 منتوجا كانت نتيجة منتظرة وطبيعية للإجراءات التي اتخذتها الحكومة.

وأوضح أنه لا يمكن أن ننتظر بعد قرار التسقيف إلا تسريح العمال، بالنظر إلى أن الاقتصاد الجزائري بني على استيراد الحاويات، وهذه النتيجة أمر مفروغ منه.

واعتبر رزيق هذا الأمر سلوكا طبيعيا في اقتصاديات العالم كلها من قبل المؤسسات التي تمر بأزمات، لكن في الجزائر الأمر يختلف لأن هذه الشركات لم تستطع المحافظة على رقم أعمالها رغم فوائدها السنوية الكبيرة، كما أن هذه الشركات فضلت انتهاج "الأنانية" بتسريح العمال بدل الإنقاص ولو قليلا من أرباحها السنوية.

بدوره الخببير الاقتصادي محمد حمدوش يؤكد أن تفكير الحكومة المبني على غلق الاقتصاد هو السبب وراء تسريح هؤلاء العمال لأن المتعارف عليه اقتصاديا هو انه كلما تم فتح الاقتصاد أمام المبادرة الخاصة الأجنبية أو المحلية أكثر ستسمح السوق بتوفير مناصب عمل أكثر، ولكن في اقتصاد الجزائر المبني على نظرة اشتراكية حتى الآن لا يمكن الوصول إلا لهذا الواقع.

لكن كمال رزيق لا يوافق هذا الرأي ويدعم قرار الحكومة الهادف إلى تقليص الاستيراد، وقال " حتى ولو ربحت الحكومة 4 ملايير دولار من هذا الغلق المؤقت سيكون لذلك المبلغ انعكاسا في بعض القطاعات التي يمكن ان يستثمر فيها"،  غير أنه يعيب على السلطات عدم توفير بدائل لذلك.

 

وعود في خبر كان

 

حرص المسؤولون يمختلف مراتبهم  وفي تصريحاتهم المختلفة على التأكيد على أن خطط التقشف أو ترشيد النفقات" كما يسميها لن تمس مناصب عمل الموظفين والمكتسبات الاجتماعية للعامل الجزائري، غير أن ذلك لم يتحقق مثلما يذكر وحيد وهو موظف في أحد فروع شركة سوناطراك.

وقال وحيد إن هذه المؤسسة البترولية أصبحت ترفض إدماج عمالها وتصر على العمل معهم بصيغة التعاقد رغم مرور عدة سنوات على عملهم، كما أنها تلجأ في بعض الأحيان لإعطائهم عطلة إجبارية للتقليص من بعض التكاليف.

وتؤكد أرقام الديوان الوطني للإحصائيات الصادرة منتصف أوت الماضي عملية تسريح العمال الذي طال عدة مؤسسات، فقد بلغت نسبة البطالة بالجزائر شهر أفريل الماضي 11.1 بالمائة، ورغم أنها انخفضت مقارنة بالشهر نفسه من  2017 حينما كانت تبلغ 12.3 في المائة  لكنها تبقى أكثر من  نسبة 10.5 في المائة  التي سجلت في سبتمبر 2016 .

وربط الديوان هذا الارتفاع في نسبة البطالة بارتفاع اليد العاملة النشيطة إلى 12.277 مليون شخص مقابل 12.117 مليون في سبتمبر 2016، ما يمثل  ارتفاعا بـ 1.3 بالمائة، لكن خبراء الاقتصاد الذين تحدثوا لنا أكدوا أن خطط التقشف لها الجانب الأكبر في ارتفاع نسبة البطالة التي يؤكدون أنها قد تكون أكثر من النسبة المعلنة من طرف ديوان الإحصاءات.

 

قطاع السيارات من أكبر المسرحين للعمال

 

يقر مسؤول لدى وكيل للسيارات ذي علامة فرنسية مقره شرق العاصمة الجزائر أن قرار انعكاس إجراءات خفض استيراد السيارات تسبب في تقليص عدد العمال بوكالات مؤسسته على مستوى الولايات بشكل لافت، وأشار إلى انه في قاعة العرض الرئيسية للشركة بالعاصمة على سبيل المثال لم يبق من العمال سوى المشرف الرئيسي وسكرتيرته وعاملين آخرين بعد تسريح باقي العمال الذين كان عددهم يفوق على الأقل عشرين عاملا.

وانخفضت واردات الجزائر من السيارات بشكل لافت، فبعد أن كانت قرابة 500 ألف سيارة سنويا في 2014 انخفضت بفعل إجراءات التقشف وتحديد كوطة وكلاء السيارات في حصص صغيرة وصل العدد إلى 83 ألف سيارة في 2016 و25 ألف سيارة فقط في 2017، ولم تستورد الجزائر أي سيارة في 2018.

وأكد ممثلو عدد من العلامات النشطة في الجزائر الذين رفضوا الكشف عن أسمائهم أن وكلاء السيارات تلقوا ضربات مالية موجعة، بعد تسقيف عدد السيارات المستوردة، ما اضطرهم لتسريع عدد من العمال وغلق عدة قاعات عرض في ولايات كثيرة أو تقليص عددها على الأقل.

وبحسب وكلاء السيارات، فإنه بالرغم الارتفاع اللافت في أسعار السيارات منذ بدء مخطط التقشف إلا أن ذلك لم يعوض تراجع رقم أعمالهم في الجزائر، ولم يمكنهم من الإبقاء على العمال الذين كانوا يشغلونهم، خاصة في ظل التذبذب والفوضى التي تطبع عملية منح رخص بناء مصانع لتركيب السيارات في الجزائر.

غير أن الخبير الاقتصادي كمال رزيق وإن اعترف باضطرار وكلاء السيارات لتسريح مئات العمال، إلا أنه يحملهم المسؤولية الكبرى في ذلك.

وأوضح أن هذه الشركات تحقق فوائد ضخمة في الجزائر التي يبقى فيها سعر السيارة مرتفعا رغم انخفاضه في السوق الدولية، لأنها لم توجه هذه الأرباح للاستثمار المحلي ولحماية عمالها من الإحالة على شبح البطالة.

 وتسببت الأسعار الحقيقية المنشورة من قبل وزارة الصناعة في حملة مقاطعة تحت شعار "#خليها_تصدي" والتي جاءت ردا على الارباح الضخمة التي كان ينتجوها أصحاب مصانع تركيب السيارات.

 

ضربة موجعة لقطاع مواد التجميل 

 

يقر الحاج الطاهر بولنور رئيس الجمعية الوطنية  أن مختلف عناصر السلسلة التجارية تأثرت من قرار تقليص الاستيراد من المستورد حتى الممون في مختلف القطاعات المعنية بالرخص الجديدة، واضطرت لتقليص عدد عمالها خاصة في مجال المواد الغذائية التي مسها القرار كالموز والأجبان وغيرها.

ويشاطر بولنوار التخوف الذي أبداه تجار مواد التجميل من أن تطالهم هذه الأزمة اثر إدراج هذا القطاع ضمن خانة المواد الممنوعة من الاستيراد، كونه من القطاعات الهامة التي قد تصل قيمته المالية في الجزائر إلى حوالي 400 مليون دولار، 250 مليون دولار تتعلق بالمواد المستوردة.

وحسب يوسف احد تجار مواد التجميل، فإن قرار المنع المتخذ مؤخرا من طرف وزارة التجارة قد أحدث استنفارا وسط تجار هذا القطاع الذين لم يخفوا تخوفهم من تأثر رقم أعمالهم وتجارتهم، خاصة وان أغلبهم من تجار التجزئة.

وأكد يوسف انه يمكن إيجاد بديل لهذا المنع عبر المنتوج المحلي، غير أن المتوج الأجنبي يبقى الأكثر طلبا، وهي حقيقة لا يمكن إخفاءها في هذا القطاع ما سيساهم في رفع عمليات التهريب وتجارة "الكابة (الحقيبة)". 

 

لن تعاد أزمة التسعينات لكن يجب البحث عن بدائل   

 

يستبعد من تحدثوا إلينا أن يصل تسريح العمال الذي تشهده مختلف المؤسسات الجزائرية منذ بداية مخطط التقشف إلى الحد الذي عاشته البلاد خلال التسعينات حتى مع وجود الوزير الأول أحمد أويحيى الذي تنسب له كل تهم غلق المؤسسات وطرد الموظفين في العقد الأخير من القرن الماضي.

وتوقع الخبير الاقتصادي محمد حمدوش أن تسترجع الحكومة تحكمها في الوضع وتغلق ملف تسريح العمال قبل تفاقمه، بالنظر إلى أن أسعار النفط عادت لترتفع عند معدلها المتوازن أي أكثر من 70 دولارا، وهو ما يعطي الجزائر مداخيل إضافية بما أن ميزانيتها مبنية اليوم على قيمة 50 دولارا للبرميل.

ودعا حمدوش الحكومة إلى تغيير إستراتيجية التفكير الاقتصادي الذي تنتهجه وتعمل على تحرير المبادرة الفردية، لأن سياسة الغلق والدعم الاجتماعي الذي تنتهجه قد تجاوزه الزمن.

بدوره يؤكد كمال رزيق ان تجربة التسعينات من الصعب أن تتكرر مجددا، بالنظر إلى أن تسريح العمال الذي حدث في الآونة الأخيرة لا يزيد عن المئات وربما الآلاف، لكن لم يصل إلى عشرات الآلاف، كما أن الحكومة في اعتقاده على دراية بحقيقة الوضع.

أما الحاج الطاهر بولنوار فيرى أن الحل يكمن في تشجيع الإنتاج المحلي لان قرار تقليص الاستيراد من حيث المبدأ يبقى قرارا جيدا، لذلك يجب إيجاد بديل في السوق الوطنية لأن تقليص الاستيراد دون توفير البديل يتسبب في الندرة ورفع الأسعار.

وبين أن رفع الإنتاج المحلي لا تتحمله اليوم الحكومة بعد تقليص الاستيراد إنما أرباب العمل الذين كانوا يشتكون سابقا من المنافسة الأجنبية، لأن حجتهم اليوم غير مقنعة وعليهم إثبات عكس ما كانوا يبررون به إخفاقاتهم المتعلقة بتوفير المنتوج المحلي.

والى أن تستطيع الحكومة عبر دعم الاستثمار المحلي أو الباترونة من خلال إقامة مبادرة محلية حقيقية، يبقى العمال الذين مسهم قرار التسريح ينتظرون الحصول على وظائف جديدة تنتشلهم من عالم البطالة الذي يعيشونه اليوم، والذي زاد صعوبته الارتفاع المتواصل في مختلف السلع خاصة ذات الاستهلاك الواسع.

 

من نفس القسم الحدث