الثقافي

الناقد الدكتور مخلوف عامر في قراءة لرواية (عازب حي المرجان) لربيعة جلطي

نصوص لا تموت

 

 

 

عازب حي المرجان(1 )

سبق لي أنْ اطلعتُ على روايات (ربيعة جلطي): 

-((الذروة

عرش معشق

-نادي الصنوبر

-حنين بالنعناع)).

وإنه وإنْ قيل إن الكاتب- وإن تعدَّدت رواياته- فهو لا يكتب في حياته سوى رواية واحدة، فهذا صحيح إلى حد بعيد- إلا أنَّه لا يمكن أن تأتي الروايات متشابهة إلى حد المسخ. فقد كنتُ أجد الكاتبة تهتدي-دوْماً- إلى مدخل مختلف لكل عمل مختلف.ومذْ نويْتُ أنْ أتصفَّح روايتها الجديدة هذه، كان السؤال الذي يراودني، هل ستكون هذه الرواية متميزة عن سابقاتها؟هل ستهتدي (ربيعة)إلى مدخل وأجواء أخرى مغايرة لما سبق؟

قد يُتضمَّن الجواب فيما سيتلو.

 

صورة الغلاف:

لا يستطيع القارئ أنْ يحسم فيما إذا كانت الصورة من وحي الكاتبة أم من بنات أفكار الناشر بغرض الإشهار أم نتيجة اتفاق بينهما.ولكن مضمون النص يقود-لا محالة- إلى مقاربة دلالتها.

أول ما يواجهنا صورة شخص يرتدي السواد، معطفاً وقبعة،.تماماً كما نعرف من خلال النص أن (الزبير الكروفيت)وهو الشخصية المحورية،كان يُفضِّل أن يلبس السروال الأسود إشارة إلى شطر حزين في حياته.. وقد أدبر في الصورة، فلا نرى إلا القسم العلوي من جسده. وكأنه يلمِّح إلى أن تقاسيم الوجه الظاهرية لا قيمة لها بالقياس إلى القلب وصفاء السريرة.لذلك يرفع وردة لونها مزيج من البياض والاحمرار الفاتح. ما من شأنه أنْ يرمز إلى الصفاء والفرح والحب والبراءة والوفاء.فلا يُستبعد أنْ يكون اختيار الصورة من وحْي الكاتبة وبما يتلاءم مع مضمون النص.

العنوان:

أضيفت كلمة (عازب) إلى (المرجان) وهو أحد أحياء مدينة وهران. لكن الإثارة لا تأتي من كلمة عازب في ذاتها لأنها اسم فاعل،ولا من المضاف إليه بوصفه مكاناً يبقى أصم بالنسبة لمن لا يسمع به ولا يعرفه ولو أنَّ للمرجان قيمته الغالية. لذلك كان لا بدَّ للكاتبة من أنْ تضفي على هذا العازب من الصفات ما يميِّزه من عموم العُزَّاب في الحي والمدينة وإلا فَقَد ما يثير الفضول.

من هنا تحتَّم على الكاتبة أنْ تتخطَّى عقبتيْن على الأقل:

أولاهما، أن تمنح هذا العازب صفات تحكم رؤيته للحياة وتُحرِّك مساره في بلورة النص. وثانيهما، أنْ تمتلك القدرة –وهي الكاتبة /الأنثى- لتندمج في شخصية ذكر لتعبِّر عن مشاعره وترصد سلوكه من غير خلل بائن.

ثم يقابلنا الإهداء الذي جاء فيه: 

((ولأن وعْد الحر ديْن..

إليك أسامة، صغير سور الغزلان، وإلى جميع من هم مثلك..

مع مزيد من الصحة والنجاح)).

يُفهم من هذا أن (أسامة شخصية) حقيقية ومن مدينة معروفة في البلاد، وقد سبق للكاتبة أنْ ألزمت نفسها بوعْد. وها هي تفي بوعدها.فأمَّا ما وراء ذلك، فقد يكون محض افتراض بالنسبة للقارئ. قد يتعلَق بعمل خيْري قدَّمته لإنسان محتاج بسبب إعاقة أو ما شابه، وربما وعدتْه بأنْ سيكون له حضور في نصها الروائي بطريقة ما، أو أنها ستُكرِّمه بهذا الإهداء لا غير.

يتلو الإهداء مفتاح ضمَّنته فقرة ممَّا ورد في كتابها((النبية))، تقول:

((وكم جادلتْني عيْنا "هاريس"الحبيبتان.

الحياة..؟ !

سؤال مُفخَّخ..

كلَّما لمسْته،

حدث الانفجار العظيم!)).

السؤال يتعلَّق بالحياة، وهي تَنْصِب للمرء شراكها في كل زاوية بحيث- إنْ هو عرف حاضره وماضيه- لا يمكنه أنْ يتوقَّع الآتي، وكما قال زهير:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عَمِ

لذلك سنصادف هذه الفكرة في ثنايا المتْن تعبِّر عن زمن هارب وكأنَّ هذا الفصل الذي اصطنعه البشر بيْن ماض وحاضر ومستقبل مجرَّد وهْم.

((فالماضي القديم حاضر فينا،لأنه يُخفي الماضي الحاضر الآن،والماضي الذي نعيشه اليوم يخفي الماضي القادم، الذي سنعيشه غداً. ليس هناك من زمن قادم، كل الأيام القادمة هي ماض قادم ، نحن نعيش في الزمن المنزلق من العمر، والهارب من الأيام الماضية،، القادمة من الماضي القادم))( ).

مرتكزات للسرد:

1-تعمد الكاتبة منذ البداية إلى خلق حالة من الانتظار تحمل القارئ على متابعة ما ستؤول إليه الأمور. فـ(عباس تشي غيفارا) البحَّار الذي اغتيل والداه زمن الإرهاب، ليس من عادته أنْ يعود بهذه السرعة. لقد عوَّد صديقه (الزبير) على أنْ يغيب مدَّة أطول. وعلي هذا الأخير أن يستعير سيارة ويستقبله في الميناء ليحمله إلى وسط المدينة.وبعدها يسود الصمت ليسرح (الزبير الكروفيت) في عالم ذكرياته ومذكِّراته.

2-لكن المحرِّك الأساس يكمن في شخصية (الزبير). ليس لأنه وحيد والديْه وقد تُوفِّيا، وإنما في كوْنه ذا خلقة مُشوَّهة جعلته يخجل من نفسه،وكلَّما قارن نفسه بغيره ازداد تأزُّماً ولم يشفع له أنه من أسرة مجاهدة،يقول:

((لا أنكر أنني مشوَّه الخلق، بجسمي الضئيل ورأسي الضخم المترنِّح فوق كتفي الضيِّقتيْن، وذراعي الطويلتيْن أكثر من اللازم، ويدي الكبيرتيْن.. أعترف ببشاعة رأسي وشكلي ولا سبيل إلى نكران شيْء لا تخطئه العيْن، ولكنه يظل في رأيي تشوُّهاً خارجياً فحسب))( ).

لعلَّ في هذا الفقرة ما يعيدنا إلى صورة الغلاف ودلالتها. لكن المثير أكثر أنَّ الكاتبة تجعل من هذه الصورة التي تبدو لصاحبها بشعة، هاجساً مقلقاً يطارده على الدوام، وهو- في الوقت نفسه- بقدر ما يعمل على تنامي النص الروائي بقدر يزيد من فضول القارئ في ملاحقة أفق الانتظار.

هكذا يمر أمامنا شريط من الصور تُشكل في مجموعها مقطوعات قصصية تُسْتدعى من خلال الشخصية المحورية(الزبير الكروفيت).وهو مع صديقه في طريقهما من الميناء إلى وسط المدينة.

الميناء = الزبير + وعباس وسط المدينة

/ / / / /

أيام المدرسة - نبية - الروخة - التلميذ لوركا - مارلين - عرس عباس - وفاة الزبير

(الزبير) أُلصق به لقب "الكروفيت" لأن زملاءه - فضلاً عن خلقته المشوَّهة- كانوا يقصدون أنْ يُلغوا فحولته ساخرين، ما يضطرُّه يوماً إلى أنْ يكشف لهم عن عورته حيث لا ينقصه ما ينقص الذكور إنْ لم يكن أفضل منهم بكثير. لكنه مع ذلك يخشى أنْ يقرب النساء، فيكتفي بالتلذَّذ الجنسي بمتابعة (نبية)من شق نافذته وهي في المطبخ بالعمارة المقابلة.

وعندما يُعوِّل على خِطبتها يكتشف مرِّة أخرى أنه في عالم آخر يبدو له بعيد المنال ولا يملك إلا أنْ ينهمر بالبكاء وقد حضر مرتدياً معطفه الطويل وقبَّعته ليُخفي أطرافه المشوَّهة وصلعته.

لم يبقَ له من أصدقائه سوى (عباس)، فالآخرون أحدهم هاجر إلى فرنسا فتزوَّج فرنسية وأقام هناك ، والثاني أصبح رجل أعمال، بينما تنكر لصداقته ثالثُهم، لكن صديقه المحبوب تبدو حياته غامضة وهو ينطوي على أسرار لا يعرفها إلا بعدما يفاجئه بدعوته إلى عرس بالعاصمة.وإذا العرس عُرسُه مع محبوبته الأولى(مليكة).

لكنَّه عرس عليَّة القوم، كلُّه أبَّهة، عالم مفاجئ، كل ما يحدث فيه غريب بالنسبة للزبير هذا المعلِّم المسكين الذي عاش حياته عازياً لم يتزوَّج إلا شقَّة ضاقت بالكتب.فلم يكنْ في وُسْعه أمام فخّ لم يكن يتوقَّعه إلا أنْ يرقص حد الجنون ثم ينفجر فيموت.ما يحيلنا على مفتاح الرواية: 

((الحياة..؟ 

!سؤال مُفخَّخ..

كلَّما لمسْته،

حدث الانفجار العظيم!)).

حين تستند الكاتبة إلى ضمير المتكلِّم تكون قد تقمَّصت شخصية العازب، وتستدرج القارئ إلى أنْ يجاريها، وحين تستعيض عنه بضمير الغائب- من حين لآخر- تنثر بين فقرات النص نظرات عن الزمن والحياة والموت وما تخبِّئه الأيام للإنسان من مفاجآت، وتصدر في ذلك عن مخزون ثقافي لا يخْفى.

نتابع سلوك هذا العازب الخجول المتردِّد بسبب خلقته المشوَّهة، ونقف - في الوقت ذاته- على أن الحياة لا يمكن أنْ تُختزل في المظاهر الخدَّاعة.وهي عندما تصوِّره في سلوك مشهد جنسي لا تستغفل القارئ فلا تبوح بالتفاصيل ولا يأتي المشهد مقحماً ولا للإثارة المجانية. 

فها هي تصوِّره وقد علَّق صور النساء على جدران البيت، لكنَّه ما لبث أنْ نزع كل الصور ليُبْقي على صورة (مارلين مونرو) وحدها، يخاطبها ويتلذَّذ بوجودها.لكن الأهم في هذا المشهد ما يخلص إليه الراوي قائلاً:

(( لا أنكر عدم عدلي بينهنَّ . وأنني كنت دائماً أختار الجلوس إلى "مارلين مونرو"أختارها من العشرات، بل المئات اللواتي ينظرن إلي. ينتظرن بفارغ الصبر أنْ ألتفت نحوهن وهن معلقات على جدار الصالون. أن السبب في رحيلهن. لكن ما حيلتي ومارلين أقربهن إلى قلبي. لست أقدر أنْ أفسِّر ذلك. لا يستطيع قلب رجل أنْ يعدل بين النساء أبداً. الحب قوة الضعف))( ).

إنها، وهي تتبَّع هذا العازب في حالاته النفسية وسلوكاته، تكون قد أخرجتْه من غمرة العُزَّاب كيْ يصبح نموذجاً فريداً، ويؤدِّي على مدار النص دور الراوي المنسق، يجمع شتات الذكريات لتأتلف في نسيج واحد متكامل.

كما يمكن أنْ ندرك في يُسر امتداد العنوان في المتْن، بحيث يصبح المتْن تفصيلاً لعلامة أُعلنت مختزلة مركَّزة على صفحة الغلاف، فيتحقَّق التناغم بيْن طرفيْن ، كلاهما يحيل على الآخر.

واللافت أيْضاً في سائر كتابات(ربيعة)،هذا التدفُّق اللغوي في سهولة ويُسْر. فالرواية على طولها يمكن أنْ تُقرأ في جلستيْن على الأكثر. فليس فيها تراكيب معقَّدة تلزمك بإعادة العبارة أو الفقرة. وهي تجيد الوصف بنفحات شعرية مُمَيَّزة.

ثم ،في رواية كهذه تكتبها امرأة عن عازب بهذا التصوير السلوكي والنفسي، فيها دلالة على عقم النقاش الذي كثيراً ما يذهب إلى أنَّ الكاتبة/الأنثى لا تقدر أنْ تتلمَّس مشاعر الذَّكَر، أو أن الكاتب الذَّكَر لا يستطيع أنْ يتحسَّس مشاعر الأنثى.فالأمر مرهون بمدى أدبية الأديب.وقد حقَّقت هذه الرواية –فيما أرى- ما يوفِّر المتعة الأدبية ويحفِّز الفكر معاً.

عازب حي المرجان،منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى،1437هـ-2016م

) الرواية، ص:85 

)الرواية، ص:24 

)الرواية، ص:142

 

 

د. عامر مخلوف 

 

 

عن الرواية:

 

صدرت حديثاً رواية بعنوان «عازب حي المرجان» للشاعرة والروائية الجزائرية ربيعة جلطي، عن منشورات ضفاف، ومنشورات الاختلاف، وهي شاعرة جزائرية من مواليد الجزائر عام 1964، نالت شهادة الدكتوراه في الأدب المغاربي الحديث، وهي حالياً أستاذة في جامعة وهران.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

شعور غريب جديد عليّ، كاسح بالمتعة، لا بد أن المتزوجين يعيشون هكذا كل يوم. الغريب أن ليس بينهم من لا يشتكي. ولا يتذمر. ولا يحن إلى زمنه العازب. يا إلهي .. كم جميل أن يكون أحد ما غريب عنك. في انتظارك. وكأنك لست غريباً عنه، بل جزء منك أو جزء منه، يقتطع من عمره شيئاً منه لك. لك وحدك دون غيرك. من بين أكثر من سبعة مليارات روؤس من الخلق فوق البسيطة، ينتظرك أنت. في مساحة لا تزيد عن بعض عشرات المترات من مساحة الأرض، ينتظرك أنت. ينتظرك وحدك!.

تعتبر ربيعة جلطي، من أهم الشاعرات الجزائريات فهى الوحيدة تقريباً من بين شعراء جيل السبعينات، التي بقيت تكتب وتنشر مجموعاتها الشعرية، وهى كما تقول في بعض إفاداتها الصحفية لم تكتب ضمن الجوقة السياسية لتلك المرحلة ولم تسقط في فخ التبشير الأيديولوجي الذي وقع فيه الجميع.

أصدرت العديد من الدواوين كان أولها «تضاريس لوجه غير باريسي»، وآخر ما صدر لها: «من التي في المرآة»، «الذروة»، «أرائك القصب»، ورواية «نادي الصنوبر».

ترجم أشعارها إلي الفرنسية الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في ديوان «وحديث في السر»، أما رشيد بوجدرة فترجم مجموعتها الأخيرة.

ف. س

 

من نفس القسم الثقافي