الثقافي

"جغرافيا تاريخية للإسلام": شعرة بين الموسوعية والسطحية

تتبدّى في ثنايا الكتاب نزعة استعلاء غربية مكررة

في ظل الحضور المتزايد للإسلام في المشهد الثقافي والسياسي الفرنسي، تتعدد الكتب والدراسات التي تتناوله عرضاً وتحليلاً. ومن بينها كتاب "جغرافيا تاريخية للإسلام"، (مارس/ آذار، 2018). ففيه سعى الباحث باسكال بوريسي لاستكشاف ما تيسَّر من مجالات "الظاهرة الإسلامية"، حسب تسمية أركون. وانتهج في ذلك مقاربةً تمزج بين الاستعادة التاريخية وتحليل الأسس الجغرافية وفقاً لاختيارات منهجية باتت تفرض نفسها في فهم المسارات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتفاعل بين مختلف الشعوب والحضارات الإسلامية، في العالم المعاصر.

ولذلك اشتمل هذا الكتاب على مباحث تمتد من زمن البعثة المحمدية لغاية تفكك الإمبراطورية العثمانية، أي من "اندفاعة فرسان البادية من صحرائهم" إلى "مَهارات التُجار البحارة الذين خاضوا عُباب المحيط الهندي"، ومن نصوص انبثقت من قلب الجزيرة العربية إلى ما يصاغ اليوم في ضواحي العواصم الغربية، ومن مركزية حجِّ مكة إلى تعدد المزارات المحلية. كما تطرّق إلى التحولات التي طاولت تراث المعارف المتحدرة من القرون الوسطى، إلى تحليل خطاب عدد من وسائل الإعلام العربية، وتلك التي لمست سابقاً الأسواق التقليدية لتؤثر في نظم المالية الإسلامية راهناً، وما رافقها من نشأة للفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة وصولاً إلى ثورات الربيع العربي.

كما أشار الباحث إلى آليات الانتقال من قواعد الضيافة العربية نحو العروض الرقمية للمشاهد الفظيعة عن ذبح الرهائن. وهكذا، يقترح هذا الكتاب استكشاف العديد من مكونات الديانة الإسلامية والحضارات والثقافات التي رافقتها، حتى نفهم القطائع والانكسارات التي تهز عالمنا اليوم.

وأما في ما يتعلق بالمنهج، فقد التزم الدارس في كتابه بنزعة تعليمية جلية، وذلك من خلال إدماج عدد من الخرائط التي توضّح الموضوعات المعروضة، فحين يتحدّث عن المزارات مثلاً يقترح خارطة يضع فيها كل المراقد والأضرحة التي زارها المسلمون، ولا يزالون، على مدار التاريخ. كما التزم بوضع نصوصٍ وشواهد، يأتي بها كاملة لتوضيح موضوعاته مثل نصوص من القرآن والحديث وأدب الرحلة ومحاضرة أرنست رينان، ووضع جميعها في مربعاتٍ تجاور الجداول والبيانات والإحصاءات، وكلها عناصر تثري الكتاب وتزيد في قيمته الوثائقية.

هذا، وقد توزعت هذه المادة الثرية على ثمانية فصول: عرض في الأول منها "الدين بوصفه قلب الثقافة الإسلامية"، مسترجعاً جذور هذه الثقافة والروابط المنعقدة فيها بين السياسي والديني. وفي الفصل الموالي، تساءل عن إمكانية الحديث عن "حضارة إسلامية" والرهانات المعرفية التي تحيط بمثل هذه المفاهيم. وتطرّق في الذي يليه إلى "الفضاء المقدس في الإسلام"، ولا سيما المزارات وأماكن العبادة، مثل المساجد والأضرحة. وعقد الفصل الرابع لدرس الصلات التي انتظمت بين الإسلام والمدينة، حيث تساءل عن مدى وجود "مدينة ذات طابع إسلامي"، كما أكده هشام جعيط، ضمن الأطر الحضارية والعمرانية التقليدية، وصولاً إلى التطورات التي غيّرت وجه المعمار في العواصم العربية التي غزاها الطابع الغربي.

ويُعد الفصل الخامس بمثابة عرض تاريخي خطي لمختلف الدول والإمارات التي حكمت العالم الإسلامي طيلة خمسة عشر قرناً، تناول فيه علاقات التفاعل بين الديني والسياسي منذ نشوء دولة المدينة لغاية اندلاع "الربيع العربي". ومن اللافت أن الفصل الموالي خُصص للحضور الإسلامي ضمن الهوامش الغربية (الأسترالية، الأوروبية والأميركية)، وهو حضور تحكمه حركية التعايش بين عقيدة التوحيد والفضاء العام ومواضعاته في البلدان الغربية. وخُصّص الفصلان الأخيران لبحث الجدلية القائمة بين القانون الإلهي وقوانين البشر، ومدى تفاعلها مع النظام العالمي الجديد. واختُتم الكتاب بقائمة ثرية للمصادر والمراجع، إلى جانب ثَبت للمصطلحات المركزية وتعريف بالأعلام.

ولكن تكمن مزية الكتاب في تركيز باسكال بوريسي على الجدل بين الديني والسياسي وربط ذلك الجدل بالبيئات الثقافية المختلفة التي عاش في أكنافها الإسلام في أنحاء المعمورة، رغم اختلاف شبكاتها التأويلية، ولئن كانت هذه النوعية من الكتب مفيدة للقارئ الأوروبي الغُفل بما تقدمه له من معلومات منظمة، فإنها تفاجئ الباحث المتخصّص بمدى حجم التكرار الذي دأب عليه الفكر الغربي خلال قرنَيْ الاستشراق الماضيين. فلا يمل هذا الفكر من اجترار أن الشريعة تخالف القانون الغربي وأنها تشي بتداخل الديني والسياسي وأن الدين يؤثر في المجتمع، وهو كلامٌ شائعٌ يعطي انطباعاً بأن الباحث يكتب فقط بهدف التبسيط، كأنَّ المعارف الإسلامية مادة استهلاك وتسويق. والمهم أن نجمِّع عنها أخلاطاً من العصور والنصوص والمبادئ ثم يعاد نشرها مع مراعاة الحد الأدنى من التنظيم.

وقد ساهم هذا الخلط بين المنظوريْن إلى انتهاج طابع موسوعي يَعرض حَسبه كل ثقافات الإسلام رغم اختلاف مواطنها، وهو ما جعل العديد من الصفحات سطحية تقريرية، لأنه لم يتمكن من التوسع ولو في مظهر واحدٍ فاضطر إلى الاتكاء على مصادر ثانوية، دون إمكانية التحقق مما ورد فيها، ولا سيما في الملحق الموسع الذي أضافه حول آخر التحولات التي طرأت على الساحة العالمية بعيد "الربيع العربي". ونخشى أن يغدو الطابع الموسوعي مرادفاً للسطحية والتكرار.

 

من نفس القسم الثقافي